حين كنت في الثانية عشرة من عمري كان عليّ التعاطي مع الشقيقة على أنها توأم لي شقي وعصيّ ، توجب عليّ الخضوع لها فلا أنساق وراء الصخب الطفولي وأن أبقى هادئة طوال الوقت ؛ لذا كانت مكتبة المدرسة ملجئي أغرق فيها بصمت وهدوء -حين أبقيها مظلمة إلا قليلاً من أشعة الشمس التي تتسلل من النافذة بما يكفي لأقرأ- عوضاً عن ساحة المدرسة المكتظة بأحاديث الفتيات ونميمة المراهقات وصرعات الموضة والريجيم ، كنت أحمل نظارتي الشمسية وسدادتي أذن ومسكّناً وأكياساً بلاستيكية ومناديل احتياطية في حال داهمتني نوبة الشقيقة ، سألتني معلمة المكتبة : لِمَ تحبين المكوث في المكتبة عوضاً عن عيادة المدرسة ؟
أجبتها : يمكن للقراءة والكتابة أن تنسيني الألم .
حين يشتد الألم بي كنت أغفو على كراسي المكتبة الباردة بعد أن ألصقها ببعض وألتحف بكنزتي الصوفية، كنت أرى أحلاماً غريبة عن كتب عملاقة تحكم العالم وكَتيبة كاملة من الأقلام الزرقاء الجافة يتولى قيادتها قلم سائل أنيق ، أحلاماً عن رحلات الحروب وعظماء التاريخ كنت أسمع وشايات القصور ومكائدها، كنت أفيق على قرع جرس انتهاء الفسحة ، وأنا أتمنى أن أكمل بقية الحلم أصعد للفصل وأنا أكتب بقية الحلم في مذكرتي الخاصة التي صُودرت وهٌتك ستر أسرارها كثيراً حتى عوقبت بمصادرة المديرة لها شهراً كاملاً ، حينها كنت قد جهّزت مذكرة أخرى لكنها أصغر يصعب ملاحظتها بين طيات الكتاب في منتصف الحصة ، كانت لي بعض الميزات كعدم حضوري للطابور الصباحي أحياناً ، وأحقية الغياب دون أن أُسأل لماذا ، لكني لم يكن بمقدوري الغياب كثيراً فأبي صارم في مسألة المدرسة والغياب وفشلت أمي في كل محاولات إقناعها وبكائها خاصة في الأيام التي كنت أصاب فيها بالإغماء لشدة الألم ، لكنه كان يردد : الموت في المدرسة أفضل من البيت، كنت أتفهم صرامة أبي بسبب حبه للعلم ودماء العسكرية التي تجري في عروقة ، كنت أدّعي أني بخير حتى لا يختصمان كما كل مرة في الصباح، كنت أبتسم والألم يمضغني ، كان عليّ أن أنضج قبل وقتي ، كان عليّ أن أبقى قوية ، ألاّ أنهار ولا أستستلم للألم وإن كان الألم كبيراً جداً أكبر من عمري .
كان عليّ أن أعتاد سخرية زميلاتي حين ينعتنني " بفتاة المكتبة المدللة التي يرهقها صداع " ، لكن كيف كان عليّ أن أوضح لهن أنّ الشقيقة ليست مجرد صداع ، وأنني أبذل الكثير من الجهد لأحضر المدرسة ، وأن الوقوف في الطابور الصباحي والاستماع لصخب المايكروفون كانت عملية انتحارية كل يوم ، لم يتفهمني إلا صديقتي إيمان لا أعلم لماذا ربما بسبب مرضها بالإلتهاب الكبدي فتفهمت معنى أن تكون مختلفاً ، توطدت صداقتي بإيمان كثيراً حتى أنها رافقت رحلتي بين الكتب كانت تشاركني شفغي وهدوئي ، كانت تفهمني بمجرد أن أنظر لها ، حتى تلك الحظات التي تداهمني فيها " رؤى الديجافو " كنت أصمت للحظات وكانت تضحك بصوت عالٍ قائلة : " هل فعلاً رأيتِ ما حدث قبل ذلك ؟" ، وأنا أحدق صامتة يأكلني الذهول ، نعم يا إيمان بكل تفاصيله ، ثم نكمل ما كنّا منشغلين به .
بقي الحال هكذا حتى اقترب العام الدراسي الجديد للصف الثالث المتوسط ، كنت وإيمان نتواصل هاتفياً عن حاجيات المدرسة و النميمة عن بعض الفتيات والمعلمات ، أخبرتني أنها قد اشترت حقيبة جديدة عليها صور مكتبة وكتب ، وأن الخياط قد جعل مريولها متسعاً لصف كامل ، كان آخر عهدي بصوتها يوم الثلاثاء في أسبوع ما قبل المدرسة ، حين جاء اليوم الأول للمدرسة وقفت عند بوابة المدرسة منتظرة إيمان ، لم تأتِ ، كل الحافلات قد وصلت ، لم أرَ أختها عائشة ، لم تخبرني أنها لن تحضر ، قرع جرس الطابور ذهبت لأصطف مع زميلاتي لكن " أبلة عزة " أخبرتني وهي تهمس في أذني إن إيمان توفيت يوم الخميس ، لم يكن الخبر صادماً بل كان قاتلاً مع ذلك الصباح الصاخب الحيوي ، استحال كل شيء لبرودة هائلة ورمادية الوجوه ، حتى أنّي لم أتكلم أو أبكي ، توجهتُ للمكتبة كانت مظلمة باردة كما يجب للحزن أن يكون تواريت أسفل طاولة في ركن المكتبة القصي وبكيت كثيراً كنت أشهق حتى سمعت وقع خطوات " أبلة مها " أمينة المكتبة فكتمت شهقتي وواريت ظلي عن انكسار شعاع الشمس الصباحية ، حتى ذهبت وأكملت نحيبي ، لم أكن أقوى على تحمل فراقها فهاتفت أبي باكية: أريدك أن تأتي ، أريد أن أخرج من المدرسة ، ولعلم أبي بمتانة صداقتي بإيمان وأنها صديقتي الوحيدة استأذن من عمله واصطحبني للبيت ، لم أبكِ أمام أمي وأبي أو إخوتي ، تسللت لدولابي وبكيت في ركنه وظلامه ثم قمت لأكتب نصاً عن وجع الرحيل وفجاءته ، بعد أن أنهيت كتابته ارتحت كثيراً كما لو أن جبلاً قد انزاح عن صدري ، حضرت للمدرسة في اليوم الثالث ، وفي الحصة الأولى استدعتني المشرفة الاجتماعية " أبلة عزة " لتتحدث معي عما فعلته وكيف واجهت موت إيمان ، مددت يدي لجيبي وأخرجت ورقةً تكاد تهترئ من فرط ما أمسكتها وتبللت بدموعي وقلت لها هذه ، قرأتها وطلبت مني أن أشترك في المسابقة الأدبية للمرحلتين المتوسطة و الثانوية صمت وكدت أرفض لكني تذكرت معلمة اللغة العربية حين اتهمتني بسرقة نصٍ عن البحر حين كنت في الصف الثاني المتوسط ، اشتركت في المسابقة لأجل رهان إيمان حين قالت لي مرة : ستعرف أبلة جميلة أنك كاتبة وسيكون ذلك قريباً ، لا أعلم لِمَ راهنت إيمان على ذلك رغم شكي الدائم فيما أكتبه لكني كنت أصدّق كل ما تقوله إيمان ، فزت لاحقاً بأفضل كاتبة للمرحلة المتوسطة لم أكترث كثيراً بالجائزة ولا بوضعي في قائمة الموهوبات أدبياً لأني كنت أدرك أنها شكليات بمكانة المدرسة بين بقية المدارس وتنافس لم ينالني منه شيئاً غير الإزعاج .
بعد ذلك عدت لوحدتي في المكتبة ، وأكملت ما كنت أفعله قبل معرفتي بإيمان ، محاولة التغاضي عن خيالاتها وضحكها في أركان المكتبة ، مستعينة بالكثير من القراءة والقليل من الكتابة لأُبعد وجع الذاكرة وألم رأسي الذي لم يهدأ ، مضت الأعوام حتى أنهيت المرحلة المتوسطة ثم الثانوية ولم يتغير شيء ، قبل خروجي من المدرسة أهديتُ كتباً للمكتبة كانت من نوعية الكتب التي تحبها إيمان ثم كتبت إهداءاً : " إليكِ إيمان ، أعرف أنكِ هنا ، قد تزيح هذه الكتب بعض الملل في غيابي " .
تم اعتبار هذا الإهداء على أنه جنونٌ مني وأنّي قد فقدت عقلي لكنّي لم أكن لأكترث كثيراً ، بعدها أكملت انخراطي بالمرحلة الجامعية وحيدة بين الكتب كما كنت.
.