غصن من ثلاثة أوراق
إيناس نور
جلست هي وحبيبها متقابلين يتوارى كل واحد منهما عن الآخر تحاشيا أن تقع نظراتهما على بعض؛ واضعة نظارة شمس سوداء لتتمكن من رؤيته دون أن يلحظ أنها تنظر إليه، وارتفع المشهد.
ثم على طاولة مستديرة جلست مع أبيها وأمها، وأخذ أبوها يسألها: أتعرفين الحب؟ فلعثمت وظنت أنه رآها تقع فيه ولا تريد الوقوع. وكانت الأشجار تحيط بهم من كل ناحية، استحت أن تكشف ستر تلك الظلال عليها، ولم تتفوه بكلمة، فاتحة نافذة من روحها لأبيها لينظر منها ما لا تفصحه الكلمات، وفي حضن كل تلك المشاعر التي بداخلها كانت هناك علامات استفهام وتعجب وحيرة، فمدَّ من إزاره وأجلسها في رحابه وأسكن روحها ولملم شتاتها، وفي صمت من الأصوات وموسيقى من الإحساس قطف غصنا صغيرا من شجرة مورفة، به ورقتان خضراوتان تخرج منهما ساق لورقة صغيرة وأعطاها إياها قائلا: هذا هو الحب.
وحالما مسكت الغصن تجلى لها الحب واختفى كل شيء...
فهل الحب إذن أن يحدث الانتقال من الوجود المنفصل إلى الوجود المتصل؟، هو كذلك لأن صورة المرء منفردا لا نماء فيها وإنما النماء في عملية الاتصال والاخضرار ومقاومة كل الظروف المعيقة والسمو باتجاه الشمس، ومدّ العروق عميقا في الأرض أو في معين التجربة والسعي للوصول إلى نبع الماء الصافي.
ولا يتم ذلك إلا بلحم الذات بالآخر إلى أن يصيرا جذعا تسري فيه نفس واحدة، في تآلف وتلاطف وانعدام للمساحة الفارقة بين الكينونات ببعضها، وسقوط لحدود التعريف إلا من مسافة شفافة يجري بها نهر ذاك الجمال الذي يحفظه المحب لمحبوبه فلا ينغص راحته ولا يقتحم حريته ولا يترك القبح يقترب من شجرتهم مهما حدث.
ربما يستدعي ذلك أن تفقد الوعي تماما أياما متواصلة وتقوم بكل وظائف الحياة شكليا إذا ما قصرت في حق محبوبك أو كان بلاؤك أقل من المستوى المطلوب.
ولا تستعجب كونك في عدة أماكن في نفس الوقت لطواف أجزاء قلبك بحبيبك، ترافقه في ترحاله وتسنده في أمره، فتتجزأ ليكتمل إحساسك به.
ولا يضيق صدرك بتذوق طعم الموت مرات لا حصر لها حينما تقتل السوء فيك وتحيي الخير فيه.
وفي كل ذلك يتمايل عودك بنفس رقة أغصان الشجر، ويحسبك الناس صاحب إعاقة وما ذاك إلا ذبذبات نغم الحب الذي يعزفك.
ومن الحتميّ أن تدخل في مشادات ليس لك نصيب منها إلا أن تُجرح وتمسح ملامحك وتذوب إحداثيات وجودك وتتموه حدودك ليبزغ نور الحب ويغطي كل منكريه.
وأوحى لها الغصن بأكثر من هذا، أن المرور على صراط الحب سيكون شبيها بتسلق حبل متأرجح بين حبات الرمال المرتحلة من كثيبة إلى أختها في مهب أنفاس العاشقين، لكنها لم تكترث لأنها كانت تلهو بين عطفات قلب عبد خاشع لمشيئة سيده، فما استثقلت التيه في مروج السلوك، ولا الفناء في جوهر الحب المقدس.
أين لا تتاح الأسلحة، ولا سطوة لقلب على الآخر، وتتفشى نعومة الجمال في الكون حتى لا يصبح حكرا على الأخيار، وتَحول المُثل العليا أرضا بعد أن كانت سقفا، ويصير المرء بقية من مياه الرحمة الربانية المتبخرة التي ترطب الجو وتُجلي علما في طريق العابرين إلى الحياة.
خلعت نظارتها السوداء فلم تجد حبيبا ووجدت جنانا للحب ممدودة على مرمى الأفق تحتاج أن تزرع.