أصعب ما في الأبوة عندي، أنك مطالب بالجمع بين سلوكين نقيضين، الأول أن تروي لأبنائك ما تعلمته في الحياة، لكي يستفيدوا منه ويتجنبوا تكرار ما وقعت فيه من خطايا وأخطاء، والثاني أن لا تقوم التجارب التي تحكيها والدروس التي استفدتها بحرق فيلم الحياة لهم، فتفسد ولو قليلاً فرصتهم في مواجهة الحياة والتعلم منها بأنفسهم، دون توقعات مرئية ولا مصادر عليمة.
إذا كنت تظن أن توصيف الأمر كما فعلتُ الآن سهل التطبيق، فأنت بالتأكيد لم تصبح أباً بعد، ولذلك لا تدرك كم هي مريرة ومؤلمة مجاهدتك لكتمان الضحك العالي المصحوب بشخرات حادة متقطعة، حين تسمع صوتك وهو يحدث أبناءك عن أهمية المذاكرة والاجتهاد فيها، لأن أحداً ـ بمن في ذلك أبناؤك ـ لن يفهمك بشكل سليم إذا حدثتهم عن رأيك الحقيقي في التعليم والامتحانات والمدارس والجامعات، وهو مأزق سيتضاعف وسيجر إلى عواقب أوخم، لو فكرت مثلاً أن تقول لأبنائك أن أكثر شيء مبالغ في تقييمه في هذه الحياة الدنيا، هو الصداقة والأصدقاء.
بمناسبة الأصدقاء، نسيت أن أخبرك أن أحد أصدقائي القدامى اللئام أرسل إليّ مستغرباً أنني ما زلت أعتبر نفسي أباً تحت التمرين، بينما بدأت علاقتي بالأبوة منذ 15 سنة، فأدركت من مجرد طرحه للسؤال، جهله العميق بجوهر الأبوة التي سبقني إليها بثلاث سنوات، لأنه لو كان يدرك المعنى الحقيقي للأبوة، لأدرك أنها النشاط الإنساني الوحيد الذي يفترض أن تبقى فيه تحت التمرين طيلة حياتك، لأنك أصبحت مرتبطا بكائن بشري يتغير ويتشكل كل لحظة، ولست مطالباً فقط بأن تدرك هذه التغيرات والتشكلات، بل وأن تتعامل معها إيجابياً دون رفض أو وصاية أو إهمال، ويا سعدك ويا هناك لو قررت أن تكون هذه فرصة لتتغير أنت وتتشكل، أو على الأقل لكي تتعلم من ما تشاهده من تغيرات وتشكلات، وذلك في رأيي ثاني أصعب ما في الأبوة، وهو أجمل ما فيها أيضاً.
دعني أحدثك عن طريقتي كأب في التعامل مع مسألة الصداقة التي ظلت تؤرقني كثيراً، منذ بدأت علاقة بناتي بالمدارس، وأصبح لهن صداقات أكثر جدية وانتظاماً من صداقات النادي والحضانة، صداقات بدأت تتمتع بعنصر جديد على الطفل هو عنصر الاختيار، الذي لم يكن متاحاً في علاقاته بأطفال العائلة والأقارب والجيران، الذين تفتح عينيك على الدنيا فتجدهم حولك، فلا يكون لك في أمرهم حل ولا عقد، على عكس أصدقاء المدرسة الذين تكتشف معهم خصائص في الحياة، لم تكن متاحة لك من قبل، مثل خاصية الاستلطاف والإعجاب، وخاصية الاستغلاس أو الاستثقال، وهي خصائص تكتشف مع ممارستها الفطرية، أنك لست مطالباً بتقديم مبررات مقنعة لاختيارك صداقة هذا ومجافاة ذاك، وأن هذه المساحة ستكون أول مساحة تمتلك فيها حرية اتخاذ قرارك دون أن يكون للكبار دور كبير في ذلك، سيحاولون أحياناً سؤالك عن أسباب عدم استلطافك لابن صديقهم الحميم أو ابنة رئيسهم في العمل، وحين تردد أسبابك في كلمات قصيرة ومكثفة وغامضة من نوعية «ما حبيتوش..غلسة..مش باطيقه.. ريحتها وحشة..مش عايز»، سيكتفي الأهل إن كانوا عقلاء بإبداء الأسف وتمني أن يتغير قرارك، وأحيانا سيغضبون ويشخطون فيك بشكل غريب، لكن الأمر لن يتطور غالباً لإجبارك على مصادقة من يستلطفونه بالعافية والإجبار، لأنهم مهما كانت درجة اتزانهم النفسي والعصبي، إن لم يدركوا استحالة ذلك فسيخشون من عواقبه. كآباء، لا نملك بحكم الظروف القدرة على مراقبة الطريقة التي تنمو بها صداقات أطفالنا مع زملاء دراستهم، حتى حين نكون مدرسين لهم أو عاملين في مدارسهم نفسها، يكون لدينا قدر متزايد من الهموم يشغلنا عن ذلك، ولذلك نفاجأ بأن صداقات أطفالنا أصبحت فجأة وفي زمن قياسي صداقات وثيقة وعميقة، وأن أطفالنا قرروا إعلانها صداقات تاريخية ستستمر حتى نهاية العمر، كم مرة رأيت ابنتك تخبرك بأن فلانة «أفضل صديقة في حياتي»؟ أو وجدت ابنك يحيطك علماً بأن صداقته بفلان هي أهم شيء حصل له في المدرسة الحقيرة التي اخترتها له؟ في العادة، إذا كنا متزنين نفسياً أو نظن أنفسنا كذلك، نبارك ذلك الاختيار ونثني عليه، ونحرص على إبداء ملاحظات تؤكد صحة اختيار طفلنا لصداقته التاريخية، حتى لو كنا نرى عكس ذلك. يعني لن يكون من الحكمة أن تذكر طفلك بأن صديق عمره فلان يمتلك ملامح قاتل تسلسلي، ولا أن تلفت نظر ابنتك إلى أن فلانة صديقتها «مدى الحياة» لا تقوم بتنظيف مناخيرها بانتظام، وأن طيبة ابنتك هي التي تمنعها من رؤية الآثار والحفائر التي تكتظ بها دائماً فتحتا مناخير صديقتها، لذلك ستترك اختبار جدية تلك الصداقات للزمن، وتسأل الله لأطفالك السلامة من انكسار القلوب.
أما إذا كنت تحظى بقدر يسير من عدم الاتزان النفسي، فلا بأس أن تلجأ للسخرية اللطيفة المنضبطة من تعبيرات مثل «في حياتي ـ في عمري»، ولكن دون أن تصل إلى مرحلة «حياتك مين يا أبو شخة ـ عمرك مين يا أهبل»، تلك المرحلة التي كان يفضلها أهلنا وأهاليهم من قبلهم، ولعلك تتذكر كيف كنت تراهم في منتهى السعادة وهم يرددون عبارات كهذه، كأنهم يذكرونك بأنك لا يمكن أن تحظى بالميزة الرائعة التي يستمتعون بها، وهي ميزة أنهم أصبحوا نظرياً أقرب منك إلى القبر.
أعرف أنه من المهم ألا تترك طفلك غارقاً في الأوهام، أو متعلقاً بحبال الزمن المهترئة، لكن يمكن أن توصل المعنى نفسه الذي أوصله لك أهلك، ولكن في إطار وعظي لطيف، يذكر بنسبية الزمن وامتلائه بالمفاجآت المخبوءة التي يستحسن أن نقوم بتحضير أنفسنا لها، لكي لا تأخذنا على أقفيتنا على حين غرة، ويمكن أن تربط ذلك بالمستقبل بطريقة ماكرة، فتقول كلاماً من نوعية: «ربنا يخليكم لبعض وبعدين لسه بكره هتكبر ويبقى ليك صحاب كتير في ثانوي والجامعة والشغل»، ويمكن أن تلتف على ما قد يسببه كلامك من إرباك لحظي، بالعودة مباشرة للثناء على الصديق الذي اختاره طفلك، أو تقوم باحتضانه بدون مناسبة، أو تعطيه مبلغاً نقدياً يتناسب حجمه مع درجة «التلبيخ» التي أحدثتها، وهذه هي الطريقة الأنجع والأكثر تأثيراً في كل المناسبات والتلبيخات.
مع الوقت اكتشفت أنني آخذ مسألة الصداقة بجدية أكثر من بناتي أنفسهن، وأنني كنت سأكون أسعد حالاً، لو كنت احتفظت بتلك الميزة المدهشة التي يتميز بها الأطفال، أعني قدرتهم على خسارة الأصدقاء بسهولة ودون خسائر، واكتساب أصدقاء جدد تشعر أنهم سيدومون للأبد، لعلك تذكر اليوم الذي جاءت فيه طفلتك من المدرسة وهي منهارة وغارقة في الدموع والبرابير، لأن صديقتها «الأنتيم البيستي اللي ما فيش أحلى منها في الدنيا»، اتضح أنها من أوسخ عشرة كائنات في الحياة، أو أنها سافرت بشكل مفاجئ إلى مدينة أخرى، أو أن والدها وأمها تطلقا، فأصبح لزاماً عليها أن تترك المدرسة وتلتحق بمدرسة مجاورة لبيت جدتها، أو لأنهم فصلوها فصلاً نهائياً بعد أن ضبطوها تسرق حقيبة الأبلة، أو تقوم بتقبيل فتى أحلام طفلتك، أو تقوم بتخريب منهجي لكمبيوترات المدرسة، سيكون ذلك اليوم أسود من قرن الخروب وروث وحيد القرن، وسيكون أسوأ ما فيه عجزك عن قول أي كلام منطقي أو عاقل، لأنه لن يجد أذناً صاغية من ابنتك، فضلاً عن أنه سيجلب لك غضب زوجتك التي ستطلب منك أن توفر كلام الحكم والمواعظ لوقت آخر، وتتصرف في هذه المصيبة، وكعادة الزوجات فهي لن تحدد لك ما الذي يجب أن تفعله، هل تقوم بمصالحة والدَي صديقة ابنتك، أو تذهب لتغيير قرار والدها في الانتقال من المدينة، أو تكلم وزير التعليم لإلغاء قرار الفصل، أو تفعل شيئاً سحرياً يعيد لصديقة ابنتك بهاءها المفقود، وستكتشف حينها أن أحضان الأمهات أكثر إقناعاً من أحضان الآباء في لحظات الحزن العميقة، وستدعو الله أن يلهمك باستدعاء مفاجئ من الشغل أو كاذب من الأصدقاء، لتبرر به خروجك السريع من أجواء البيت المكهربة.
إذا كنت صاحب ضمير يقظ، ستفكر طويلاً في ما يمكن فعله لتحسين مهاراتك في التواصل مع ابنتك حين تكون حزينة أو عميقة، بعيداً عن الوعظ الفارغ أو كلام التنمية البشرية الخائب أو ضرب اللخمة الذي يزيدها حزناً ويزيدك توتراً، وفي الغالب الأعم لن يطول تفكيرك، لأن ابنتك ستعود من المدرسة بعدها بيوم أو يومين بالكثير، لتريك بمنتهى السعادة صورة صديقة عمرها الجديدة، التي لن تسمح لأحد بأن يفرق بينهما، ولن يكون من الذكاء أبداً أن تفخر بقوة ذاكرتك، فتسألها «مش دي اللي اتوقفتي يومين من المدرسة قبل أسبوعين عشان شديتيها من شعرها؟»، فلن يكون بمقدورك سوى أن تبارك الاختيار الجديد وأنت ساكت، ثم تسأل الله لك ولها السلامة من انكسار القلب.
إذا كنت تظن أن توصيف الأمر كما فعلتُ الآن سهل التطبيق، فأنت بالتأكيد لم تصبح أباً بعد، ولذلك لا تدرك كم هي مريرة ومؤلمة مجاهدتك لكتمان الضحك العالي المصحوب بشخرات حادة متقطعة، حين تسمع صوتك وهو يحدث أبناءك عن أهمية المذاكرة والاجتهاد فيها، لأن أحداً ـ بمن في ذلك أبناؤك ـ لن يفهمك بشكل سليم إذا حدثتهم عن رأيك الحقيقي في التعليم والامتحانات والمدارس والجامعات، وهو مأزق سيتضاعف وسيجر إلى عواقب أوخم، لو فكرت مثلاً أن تقول لأبنائك أن أكثر شيء مبالغ في تقييمه في هذه الحياة الدنيا، هو الصداقة والأصدقاء.
بمناسبة الأصدقاء، نسيت أن أخبرك أن أحد أصدقائي القدامى اللئام أرسل إليّ مستغرباً أنني ما زلت أعتبر نفسي أباً تحت التمرين، بينما بدأت علاقتي بالأبوة منذ 15 سنة، فأدركت من مجرد طرحه للسؤال، جهله العميق بجوهر الأبوة التي سبقني إليها بثلاث سنوات، لأنه لو كان يدرك المعنى الحقيقي للأبوة، لأدرك أنها النشاط الإنساني الوحيد الذي يفترض أن تبقى فيه تحت التمرين طيلة حياتك، لأنك أصبحت مرتبطا بكائن بشري يتغير ويتشكل كل لحظة، ولست مطالباً فقط بأن تدرك هذه التغيرات والتشكلات، بل وأن تتعامل معها إيجابياً دون رفض أو وصاية أو إهمال، ويا سعدك ويا هناك لو قررت أن تكون هذه فرصة لتتغير أنت وتتشكل، أو على الأقل لكي تتعلم من ما تشاهده من تغيرات وتشكلات، وذلك في رأيي ثاني أصعب ما في الأبوة، وهو أجمل ما فيها أيضاً.
دعني أحدثك عن طريقتي كأب في التعامل مع مسألة الصداقة التي ظلت تؤرقني كثيراً، منذ بدأت علاقة بناتي بالمدارس، وأصبح لهن صداقات أكثر جدية وانتظاماً من صداقات النادي والحضانة، صداقات بدأت تتمتع بعنصر جديد على الطفل هو عنصر الاختيار، الذي لم يكن متاحاً في علاقاته بأطفال العائلة والأقارب والجيران، الذين تفتح عينيك على الدنيا فتجدهم حولك، فلا يكون لك في أمرهم حل ولا عقد، على عكس أصدقاء المدرسة الذين تكتشف معهم خصائص في الحياة، لم تكن متاحة لك من قبل، مثل خاصية الاستلطاف والإعجاب، وخاصية الاستغلاس أو الاستثقال، وهي خصائص تكتشف مع ممارستها الفطرية، أنك لست مطالباً بتقديم مبررات مقنعة لاختيارك صداقة هذا ومجافاة ذاك، وأن هذه المساحة ستكون أول مساحة تمتلك فيها حرية اتخاذ قرارك دون أن يكون للكبار دور كبير في ذلك، سيحاولون أحياناً سؤالك عن أسباب عدم استلطافك لابن صديقهم الحميم أو ابنة رئيسهم في العمل، وحين تردد أسبابك في كلمات قصيرة ومكثفة وغامضة من نوعية «ما حبيتوش..غلسة..مش باطيقه.. ريحتها وحشة..مش عايز»، سيكتفي الأهل إن كانوا عقلاء بإبداء الأسف وتمني أن يتغير قرارك، وأحيانا سيغضبون ويشخطون فيك بشكل غريب، لكن الأمر لن يتطور غالباً لإجبارك على مصادقة من يستلطفونه بالعافية والإجبار، لأنهم مهما كانت درجة اتزانهم النفسي والعصبي، إن لم يدركوا استحالة ذلك فسيخشون من عواقبه. كآباء، لا نملك بحكم الظروف القدرة على مراقبة الطريقة التي تنمو بها صداقات أطفالنا مع زملاء دراستهم، حتى حين نكون مدرسين لهم أو عاملين في مدارسهم نفسها، يكون لدينا قدر متزايد من الهموم يشغلنا عن ذلك، ولذلك نفاجأ بأن صداقات أطفالنا أصبحت فجأة وفي زمن قياسي صداقات وثيقة وعميقة، وأن أطفالنا قرروا إعلانها صداقات تاريخية ستستمر حتى نهاية العمر، كم مرة رأيت ابنتك تخبرك بأن فلانة «أفضل صديقة في حياتي»؟ أو وجدت ابنك يحيطك علماً بأن صداقته بفلان هي أهم شيء حصل له في المدرسة الحقيرة التي اخترتها له؟ في العادة، إذا كنا متزنين نفسياً أو نظن أنفسنا كذلك، نبارك ذلك الاختيار ونثني عليه، ونحرص على إبداء ملاحظات تؤكد صحة اختيار طفلنا لصداقته التاريخية، حتى لو كنا نرى عكس ذلك. يعني لن يكون من الحكمة أن تذكر طفلك بأن صديق عمره فلان يمتلك ملامح قاتل تسلسلي، ولا أن تلفت نظر ابنتك إلى أن فلانة صديقتها «مدى الحياة» لا تقوم بتنظيف مناخيرها بانتظام، وأن طيبة ابنتك هي التي تمنعها من رؤية الآثار والحفائر التي تكتظ بها دائماً فتحتا مناخير صديقتها، لذلك ستترك اختبار جدية تلك الصداقات للزمن، وتسأل الله لأطفالك السلامة من انكسار القلوب.
أما إذا كنت تحظى بقدر يسير من عدم الاتزان النفسي، فلا بأس أن تلجأ للسخرية اللطيفة المنضبطة من تعبيرات مثل «في حياتي ـ في عمري»، ولكن دون أن تصل إلى مرحلة «حياتك مين يا أبو شخة ـ عمرك مين يا أهبل»، تلك المرحلة التي كان يفضلها أهلنا وأهاليهم من قبلهم، ولعلك تتذكر كيف كنت تراهم في منتهى السعادة وهم يرددون عبارات كهذه، كأنهم يذكرونك بأنك لا يمكن أن تحظى بالميزة الرائعة التي يستمتعون بها، وهي ميزة أنهم أصبحوا نظرياً أقرب منك إلى القبر.
أعرف أنه من المهم ألا تترك طفلك غارقاً في الأوهام، أو متعلقاً بحبال الزمن المهترئة، لكن يمكن أن توصل المعنى نفسه الذي أوصله لك أهلك، ولكن في إطار وعظي لطيف، يذكر بنسبية الزمن وامتلائه بالمفاجآت المخبوءة التي يستحسن أن نقوم بتحضير أنفسنا لها، لكي لا تأخذنا على أقفيتنا على حين غرة، ويمكن أن تربط ذلك بالمستقبل بطريقة ماكرة، فتقول كلاماً من نوعية: «ربنا يخليكم لبعض وبعدين لسه بكره هتكبر ويبقى ليك صحاب كتير في ثانوي والجامعة والشغل»، ويمكن أن تلتف على ما قد يسببه كلامك من إرباك لحظي، بالعودة مباشرة للثناء على الصديق الذي اختاره طفلك، أو تقوم باحتضانه بدون مناسبة، أو تعطيه مبلغاً نقدياً يتناسب حجمه مع درجة «التلبيخ» التي أحدثتها، وهذه هي الطريقة الأنجع والأكثر تأثيراً في كل المناسبات والتلبيخات.
مع الوقت اكتشفت أنني آخذ مسألة الصداقة بجدية أكثر من بناتي أنفسهن، وأنني كنت سأكون أسعد حالاً، لو كنت احتفظت بتلك الميزة المدهشة التي يتميز بها الأطفال، أعني قدرتهم على خسارة الأصدقاء بسهولة ودون خسائر، واكتساب أصدقاء جدد تشعر أنهم سيدومون للأبد، لعلك تذكر اليوم الذي جاءت فيه طفلتك من المدرسة وهي منهارة وغارقة في الدموع والبرابير، لأن صديقتها «الأنتيم البيستي اللي ما فيش أحلى منها في الدنيا»، اتضح أنها من أوسخ عشرة كائنات في الحياة، أو أنها سافرت بشكل مفاجئ إلى مدينة أخرى، أو أن والدها وأمها تطلقا، فأصبح لزاماً عليها أن تترك المدرسة وتلتحق بمدرسة مجاورة لبيت جدتها، أو لأنهم فصلوها فصلاً نهائياً بعد أن ضبطوها تسرق حقيبة الأبلة، أو تقوم بتقبيل فتى أحلام طفلتك، أو تقوم بتخريب منهجي لكمبيوترات المدرسة، سيكون ذلك اليوم أسود من قرن الخروب وروث وحيد القرن، وسيكون أسوأ ما فيه عجزك عن قول أي كلام منطقي أو عاقل، لأنه لن يجد أذناً صاغية من ابنتك، فضلاً عن أنه سيجلب لك غضب زوجتك التي ستطلب منك أن توفر كلام الحكم والمواعظ لوقت آخر، وتتصرف في هذه المصيبة، وكعادة الزوجات فهي لن تحدد لك ما الذي يجب أن تفعله، هل تقوم بمصالحة والدَي صديقة ابنتك، أو تذهب لتغيير قرار والدها في الانتقال من المدينة، أو تكلم وزير التعليم لإلغاء قرار الفصل، أو تفعل شيئاً سحرياً يعيد لصديقة ابنتك بهاءها المفقود، وستكتشف حينها أن أحضان الأمهات أكثر إقناعاً من أحضان الآباء في لحظات الحزن العميقة، وستدعو الله أن يلهمك باستدعاء مفاجئ من الشغل أو كاذب من الأصدقاء، لتبرر به خروجك السريع من أجواء البيت المكهربة.
إذا كنت صاحب ضمير يقظ، ستفكر طويلاً في ما يمكن فعله لتحسين مهاراتك في التواصل مع ابنتك حين تكون حزينة أو عميقة، بعيداً عن الوعظ الفارغ أو كلام التنمية البشرية الخائب أو ضرب اللخمة الذي يزيدها حزناً ويزيدك توتراً، وفي الغالب الأعم لن يطول تفكيرك، لأن ابنتك ستعود من المدرسة بعدها بيوم أو يومين بالكثير، لتريك بمنتهى السعادة صورة صديقة عمرها الجديدة، التي لن تسمح لأحد بأن يفرق بينهما، ولن يكون من الذكاء أبداً أن تفخر بقوة ذاكرتك، فتسألها «مش دي اللي اتوقفتي يومين من المدرسة قبل أسبوعين عشان شديتيها من شعرها؟»، فلن يكون بمقدورك سوى أن تبارك الاختيار الجديد وأنت ساكت، ثم تسأل الله لك ولها السلامة من انكسار القلب.