لماذا فشلت كل الإنجازات العلمية والتكنولوجية التي حققها الإنسان في العصر الحاضر أن تحميه من الخوف المَرَضي؟ وكيف اتضح أن الطريق المأمول للهرب من سيطرة الخوف، والذي جربته البشرية منذ خمسة قرون، ليس سوى طريق دائري أعادها إلى المكان الذي بدأت عنده؟ ليبدو أن الخوف دائم في كل مكان، وأن الزمن الذي نعيشه هو زمن الخوف مرة أخرى.
هذه الأسئلة يطرحها الفيلسوف زيجمونت باومان في كتابه الملهم (الخوف السائل)، وهو يتأمل كيف أقامت الدولة الحديثة عِلّة وأساس وجودها وكيف ضمنت حقها في امتثال المواطنين لها، على الوعد بحماية رعاياها من الأخطار التي تهدد وجودهم، ولكنها حين لم تعد قادرة على الوفاء بوعدها، خصوصا في ظل هيمنة الأسواق التي تتبع العولمة وتخرج عن سلطان الدولة يوما بعد يوم، قامت الدولة الحديثة بتحويل اهتمام مواطنيها بالحماية من الأخطار المهددة للأمن الاجتماعي، إلى اهتمامهم بالأخطار المهددة لسلامتهم الشخصية، لتتسرب المخاوف إلى الناس من كل شبر في كوكبهم، ويصبح الصراع ضد المخاوف مهمة مستمرة مدى الحياة، وتصبح الحياة بأسرها صراعا طويلا ضد إمكانية التأثير السلبي المحتمل للمخاوف، وضد الأخطار الحقيقية أو الخيالية التي تلقي في قلوبنا الرعب، في الوقت نفسه الذي تلقي الدولة إلى الأسواق الاستهلاكية بمهمة إمداد الناس بالأسلحة والضمانات التي تحميهم منها، ويصبح الناس مهددين بالمعاناة من ثلاث اتجاهات: أولا: أجسادهم التي كُتب عليها الموت والفناء، والتي لا يمكن أن تعمل من دون الألم والقلق بوصفهما إشارتي تحذير، وثانيا: من العالم الخارجي وقواه المدمرة التي لا يمكن إدارتها، وثالثا: من علاقاتهم بالآخرين الذين يمكن أن يصير كل واحد منهم وحشا فجأة، وهي المعاناة الأكثر إيلاما من غيرها، وفي الحرب الدائمة ضد هذه المعاناة من الخوف، يمكن للناس أن يكسبوا معارك كثيرة، لكن حربهم نفسها ضد الخوف تبدو خاسرة.
ولأن أشد ما نخشاه في مجتمعنا من أخطار هي أخطار عاجلة، فإننا نتمنى أن تكون الحلول عاجلة ومريحة فورا، مثل مسكنات الألم، ومع أن جذور الخطر قد تكون منتشرة ومتشابكة، فإننا نتمنى أن تكون دفاعاتنا بسيطة ومؤهلة للاستخدام الفوري، ونكره أي حلول تعجز عن الوعد بنتائج سريعة وسهلة التحقيق، ونبغض الحلول التي تتطلب منا أن ننتبه لأخطائنا، ولذلك كما يقول زيجمونت باومان تنجح الدول في التلاعب برغبة الناس في الأمن، لكي تحول المدن إلى حصون محاصرة، يعيش فيها الإرهابيون وضحاياهم، ويضيف كل طرف إلى خوف الآخر وهياجه وقسوته، ويؤكد كل طرف أسوأ مخاوف الآخر ويضيف إلى ما يكنونه من ضغائن وأحقاد، ويصبح الناس الذين أُلقي في قلوبهم الرعب أفضل حلفاء للإرهابيين، حتى وإن لم يرغبوا في ذلك، وحين يستعصي الوصول إلى المتهمين الحقيقيين، يتم الانتقام عندها من أنسب وأسهل كباش الفداء، فينتج عن ذلك المزيد من المخاوف، ويعيش المجتمع على رمال متحركة من اللا يقين. وبدلا من أن يؤدي الخوف بالمجتمع إلى التكافل يؤدي إلى انتشار النزعة الفردية وعدم التفكير في العواقب مقابل العثور على حل سريع، فتزداد هشاشة الروابط الإنسانية، ويواصل المجتمع دفع المزيد من الأثمان كل يوم، ولا يكسب سوى أصحاب الأسواق التي يتناقض منطق عملها مع فكرة الدولة الاجتماعية، ولذلك تزدهر في ظل فقدان الأمن، وتستغل مخاوف الناس وإحساسهم بالعجز وقلة الحيلة.
يشير باومان في كتابه إلى دراسة تحمل عنوانا بليغا هو (الإرهابي صديق سلطة الدولة)، يكشف فيها الباحث فيكتور جروتوفيتش عن الطرق التي استغلت بها الحكومة الألمانية في أواخر السبعينيات من القرن العشرين الانتهاكات الإرهابية التي ارتكبتها جماعة الجيش الأحمر، ليعتبر أغلبية الألمان أن السلامة الشخصية أهم من أي شيء، ويختفي تأكيد الدستور على الحريات الفردية، ويزيد معدل الخوف الذي يتسرب إلى المجتمع، ويتم تقويض القيم الداعمة للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان بشكل يفوق ما كان يحلم به الإرهابيون، ويثبت بعد ذلك أن انهيار جماعة الجيش الأحمر واختفاءها من الحياة الألمانية، لم يحدث نتيجة للأفعال البوليسية القمعية، بل بسبب تغير الظروف الاجتماعية التي لم تعد أرضا خصبة لممارسات الإرهابيين ورؤاهم للعالم، وهو ما حدث في أيرلندا التي استفاد فيها الإرهاب من الاستجابة العسكرية العنيفة التي أبداها البريطانيون، وهو ما يمكن لمسه في تجارب عديدة حلت فيها دولة السلامة الشخصية محل الدولة الاجتماعية، التي تجعل من الثقة بالنفس وفي إمكانية تحقيق مستقبل أفضل ملكية عامة لمواطنيها، أما دولة السلامة الشخصية فتتغذى على الخوف واللا يقين، وهما العدوان الأصليان للثقة بالنفس، وهو ما يجعل مؤسساتها تتمكن من تطوير مصالحها، كلما تمكنت من مضاعفة مصادر تغذية الخوف واللا يقين، وكلما قامت بتقويض أسس الديمقراطية.
زيجمونت باومان |
في ختام كتابه يستشهد زيجمونت باومان بسلفه العظيم تيودور أدورنو الذي لا يهرب كغيره من حقيقة أن العالم يهوى الانخداع، ولذلك لا يقع البشر ضحية للغش والاحتيال وفقا للاعتقاد السائد، بل يتلذذون بالوقوع فريسة للغش والخداع، لأنهم يشعرون أن حياتهم لن تُطاق إذا لم يتمسكوا بإشباع رغبات لا تُشبع على الإطلاق، ولذلك يستشهد أدورنو بحديث عالم النفس الأشهر سيجموند فرويد عن ولع الجماعات الإنسانية بالسلطة، وبحديث غوستاف لوبون عن تعطش الجماعات البشرية للطاعة، وهو ما يرى أدورنو أنه يجب أن يزيد من أهمية العزم على التمسك بالحرية الفكرية الحقيقية لضمان الحصانة من غواية الأمر الواقع، أما باومان فلا يكتفي بتقرير هذه الحقائق المرهقة وحسب، فهو يرى أنه لا بد على كل صاحب رأي يرغب في التغيير، أن يتمسك بالفكر النقدي الذي يشترط المراجعة المستمرة لكي يبقى أهلا لمهمته، ويفكر في كيفية إمكانية إحداث توازن بين الحرية والأمن، بوصفهما الشرطين المتعارضين والضروريين في مجتمع الرحابة الإنسانية، دون أن يتوقف عن تحذير الناس من الكارثة المحققة التي تنتظر العالم في غياب ذلك التوازن، لأن العولمة السلبية التي تسود العالم ستجعل الكارثة محتومة إذا لم نتكاتف بكل ما يمكننا على تهذيبها وترويضها، لأنها عولمة تتأرجح بين تجريد الأحرار من أمنهم، ومنحهم الأمن في شكل اللا حرية، ومن دون اليقظة الدائمة والحرص على تذكير الناس بالكارثة القادمة إذا غفلوا عن خطورة الاستسلام للأمر الواقع، فليس للبشرية أن تحلم بأدنى أمل في النجاة.
من دون أن يتوقف عما إذا كانت تحذيراته ستكون «رسالة في زجاجة» ربما تصل لهدفها يوما ما أو لا، يختم زيجمونت باومان تشريحه للخوف السائل في مجتمعنا، بالتأكيد على أن الخطوة الوحيدة الواعدة نحو العلاج من الخوف المتزايد التعجيزي هو الكشف عن جذور الخوف، لأن طريق استمرار المجتمع يتطلب القدرة على استئصال تلك الجذور، وهو ما لن يتحقق إلا بالمعرفة، ولذلك وحده تحرص السلطات المستفيدة من زراعة الخوف، على السيطرة على وسائل الإعلام والثقافة لتزييف وعي الناس، ويسهل عليها الاستثمار في خوفهم الذي لا ينتهي أبدا، وليس لنا أن نقاوم ذلك إلا بالمعرفة كلما استطعنا إليها سبيلا.
….
ـ الخوف السائل ـ زيجمونت باومان ـ ترجمة حجاج أبو جبر ـ الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
٭ كاتب مصري
المصدر القدس العربي فى 6 ابريل 2018