دواعي السفر تقتضي منك التعامل مع الأهل والأصدقاء المقيمين في الوطن برفق وحذر، ومع ذلك سيصعب عليك حال صديق قريب إلى قلبك، حين تراه منهمكاً في جدل عقيم مع أصدقاء مقتنعين بشدة أن هناك 25 مليون شخص شاركوا في مسخرة إعادة تنصيب السيسي، وأن غالبيتهم الساحقة قالوا له نعم، وصاحبنا يا ولداه يحاول بكل ما أوتي من طاقة إقناعهم أن هذا يستحيل عملياً، لأن العدد المعلن للمشاركين في المسخرة، يفوق عدد المشاركين في انتخابات مرسي وشفيق ـ التي كانت الأفكار والقناعات أياً كان رأيك فيها هي الدافع الرئيسي للحشد والمشاركة ـ وهو ما لا يمكن أن يصدقه صاحب بصر، حتى لو كان عديم البصيرة والضمير. ولأن صديقي يخصني، ولأن عروسته التي ستزف إليه بعد أشهر تحتاج أكثر إلى طاقته ومجهوداته، أرسلت له في «إنبوكسه» مقولة المسافر الدائم ألبير قصيري والتي كتبها في روايته «العنف والسخرية» التي صدرت عام 1962: «أعرف شيئين في غاية البساطة أما الباقي فلا أهمية له: الأول هو أن العالم الذي نعيش فيه تحكمه عصبة نبيلة من الأنذال التي لطخت الأرض، الثاني أنه يجب ألا نأخذ الأمر على محمل الجد لأن هذا هو ما يرغبون فيه».
كما توقعت، فهمني صديقي خطأ، فأثبت أنني لم أتعامل مع مقولة ألبير قصيري بجدية كافية، لأنني أخذت الأمر على محمل الجد، وأرسلت له المقولة، اتهمني صديقي أنني غير مكترث بشكل لا يتحمله الموقف المأساوي، فاعتذرت بشدة وتمنيت له التوفيق في محاولة التعامل بعقل ومنطقية مع أصدقائه الذين يدعون الثقافة والتحضر والمدنية. ومع ذلك حين قامت الشرطة بتصفية خمسة مواطنين اتهمتهم بأنهم سرقوا الباحث الإيطالي ثم قتلوه، اتهموا بالخيانة كل من يشكك في الرواية الرسمية ويدين التصفيات الجسدية، ثم حين اعترفت الدولة للسلطات الإيطالية بأن قتل هؤلاء الخمسة كان خطأ وأنهم لا علاقة لهم بقتل ريجيني، وأنها ستسهل لجهات التحقيق الإيطالية أخذ أقوال المسؤولين الأمنيين الذين تسببوا في قتل ريجيني خلال تعذيبه، صمت الأصدقاء المتحضرون ولم يعتذروا، ولم يتراجعوا بعد ذلك عن تصديقهم الدائم للدولة في كل ما ترويه من تبريرات لجرائمها، ولم يتوقفوا عن إلقاء تهم العمالة والخيانة على كل من يدين ويلعن استمرار التصفيات الجسدية والاختفاءات القسرية وأحكام الإعدام التي تعقب محاكمات هزلية. فإذا كان صديقي يعتقد أن وقته يستحق أن يضيع على أمثال هؤلاء ظناً منه أنه سيصل معهم إلى نقطة اتفاق، فمن أنا لأحكم عليه، وأحرمه من رياضة مفضلة، تخرج الكثير من طاقته العصبية وتجعله يشعر بجدوى الحياة.
ولأنني استوعبت الدرس، لم أرسل مقولة ألبير قصيري لكاتبة صديقة دخلت في معركة أشد ضراوة مع أصدقاء ومتابعين اتهموها بأنها تكره للمصريين الفرحة، وأنها باتت تفكر بنفس طريقة المتطرفين الكارهين للحياة، كل ذلك لأنها كتبت تنتقد الإفراط في هز الأرداف على أنغام أغنية كتبت كمرثية لشهداء الإرهاب، مطالبة باستثناء هذه الأغنية فقط من قائمة الأغاني الوطنية الراقصة التي تكيد الإخوان والطابور الخامس، ويكفي ما جرى لها على أيدي مديري المدارس من مساخر.
كثير ممن هاجموا الصديقة ينتمون إلى صنف (عشاق الشعوب) الذي يروج بكثافة في كافة المواسم، وهو صنف يعتبر أن مجرد إعلان حبه للشعب، ذلك الكائن الخرافي الذي يتحدث الجميع باسمه طغاة وثواراً وضحايا وجلادين ومعرصين ومنظرين، يعطيه الحق في احتقار ولعن كل من ينتقد أي تصرف أو سلوك يرتكبه مجموعة من البشر الذين يتنفسون تراب الوطن ويعيشون في ما لم يتم بيعه بعد من أراضيه. يحب هذا الصنف أن يحشو كلامه بمفردات من نوعية (الغلابة ـ ملح الأرض ـ البسطاء ـ المهمشين)، ومع تطور أي نقاش سيقول لك قولاً ثقيلاً عن أهمية النزول للناس والتوعية وطاقة النور والقدوة الحسنة، لكنه حين تضغط عليه الحياة بقسوة وتضعه في اختبارات صعبة مع أفراد أو جماعات من «الشعب»، سيتحول في الغالب إلى الطرف المقابل الكاره للشعوب برمتها، والساخط عليها لأنها تخذله في اختياراتها الانتخابية والسياسية، وسيحشو كلامه بمفردات من نوعية (الجهلة ـ العبيد ـ الهمج ـ الغوغاء)، وبدون أي نقاش سيقول لك إن البعد عن الناس غنيمة والحل هو النيزك وأي رهان على الناس رهان على العدم. سيدهشك أن بعض المنتمين إلى هذا الصنف سيستشهد في كلامه بعمر سليمان وبعضهم بسيد قطب وبعضهم يمكن أن يستشهد بألبير قصيري، ولن يدهشك أن جميع هؤلاء لن يفضلوا التعامل بمنطقية مع تصرفات أي مجموعات بشرية يطلقون عليها اسم الشعب، لفهم دوافعها وأسبابها.
على ذكر الاستشهادات، لا أريد أن يأخذنا الكلام، قبل أن أؤكد أن الاستشهادات استرشادات، لا يجب أن يحملها عاقل أكثر مما تحتمل، ولذلك أحب مقولة ألبير قصيري المقتطعة من سياق روايته، وقد لا تعبر عن موقفه شخصياً، لأنها تمكنت من تكثيف موقفي من كثير مما حدث ويحدث في مصر، فضلاً عن أنها تفسر الإمعان المجنون في القتل والبطش الذي يقوم به السيسي ضد كل من يعارضه أو ينتقده أو يسخر منه، لدرجة أن الأطفال الرضع والشيوخ والمرضى لم يسلموا من قمعه، وقد كانوا يستثنون من ذلك القمع في عهود سابقة، كانت تتسامح مع المعارضة والنقد والسخرية إذا لم تشكل خطراً عليها، ليس لأن قلوب الحكام وقتها كانت أطيب وأرق، بل لأن القشرة المدنية التي تغلف الواقع السياسي السلطوي، كانت تستدعي وجود انطباع عام أن هناك عقلاً سياسياً في رأس السلطة يقوم بفرملة القمع حين اللزوم، ويستطيع أن يتحول من وضع البطش إلى وضع الرحمة، وأن الرئيس الأب الصارم الحازم البتار يمكن أن يؤدي بسهولة دور الأب الحنون العطوف الرحيم. ولم يكن الكثيرون يبالون بأن يقيموا أداءه في الحالتين، بقدر ما كان يريحهم إحساس أن هناك من يقوم بوعي ما وبشكل ما، بتقسيم الأدوار وتغيير الأوضاع ولا مؤاخذة، ولعلك بهذه المناسبة تذكر تلك النكتة التاريخية التي كان المواطن فيها يقوم بإرسال قبلات للرئيس أثناء إلقاء خطابه التاريخي، وحين سأله الرئيس عما يفعله، قال المواطن: أصل سيادتك ما فيش جنس من غير بوس.
ستبدو لك تلك النكتة بعيدة جداً عن سياق الحفر على الناشف الذي ابتدعه السيسي كأسلوب حكم ولا يزال يمعن فيه كل يوم، وهو ما يجعله حاكماً جديداً على التصورات المصرية الحديثة عن الحاكم وطريقة إدارته للدولة، لكن ذلك يجعله في نفس الوقت حاكماً قديماً ينتمي إلى عصور المماليك والفاطميين والعثمانيين، حيث كانت علاقة الدولة بالمواطن لا تدار في إطار تعاقد ضمني جمعي ثابت أو شبه ثابت، بل يتم صياغتها وفقاً لمزاج الحاكم المسكون بالهلاوس والمخاوف والنزوات، وربما كان ما يساعد السيسي على إدارة البلاد بهذه الطريقة، أنها الطريقة نفسها التي يحكم بها حلفاؤه القريبون بلادهم، لكن مهمته لن تكون سهلة مثل مهمتهم بحكم بؤس الواقع الاقتصادي وتشظي شبكات الفساد، وهو ما أظنه لا يغيب عنه بحكم التجربة، ولذلك يمعن في القمع والبطش، ويدير حكمه بتلك العشوائية الغريبة التي تحير معاونيه قبل معارضيه، وتثير قلق حلفائه وداعميه.
يطول الحديث بما لا تتسع له المساحة، وحتى نستأنفه في وقت لاحق، دعني أختم بأنه فيما يتعلق بالقمع والبطش، ستجد مستويين مختلفين تمارسهما أجهزة السيسي، مستوى يبدو للبعض عبثياً وغير منظم ولا معنى له، لكن عبثيته وعشوائيته هي التي تجعل لذلك القمع معناه المهم والمؤثر الذي يعرفه ضباط الأجهزة السيادية الذين تم تربيتهم على الغالي، أما المستوى الثاني من القمع فهو منظم ومنهجي ويستهدف كل من يبحث بشكل عملي عن طريق للخروج، بعيداً عن اليأس واللطم والمزايدات والمهاترات وتصفية الحسابات، وسيكون هؤلاء هم الهدف الأكبر في الفترة المقبلة، التي سيتواصل فيها الحفر على الناشف، حتى وإن نصح الحلفاء بقليل من البوس والحنان، للظهور بمظهر المسيطر الرحيم، ولأنني أحسبك من هؤلاء الذين لا يملكون رفاهية اليأس والانزواء وعدم الاكتراث، فمحبتي تجعلني أذكرك بمقولة ألبير قصيري، لتوفر طاقتك اليومية لما تعتقد طبقاً لتجربتك أنه أجدى، وإذا لم تكن لديك طريقة تقاوم بها العنف والتوحش، فلماذا تفرط في سلاح ناجع هو السخرية، التي ليس من العيب في أيام غبراء كهذه أن تتبين حدودها الآمنة، وتتوقف عن الانجرار وراء المزايدات، وتدرك أهمية البقاء على قيد الحياة وبكامل العقل والوعي، حتى يجيء الحفر على الناشف بآخره، ولا أظنك تنكر أن العلم أثبت أن كل شيء له آخر، حتى الحفر على الناشف.
أو هكذا أظن.
كما توقعت، فهمني صديقي خطأ، فأثبت أنني لم أتعامل مع مقولة ألبير قصيري بجدية كافية، لأنني أخذت الأمر على محمل الجد، وأرسلت له المقولة، اتهمني صديقي أنني غير مكترث بشكل لا يتحمله الموقف المأساوي، فاعتذرت بشدة وتمنيت له التوفيق في محاولة التعامل بعقل ومنطقية مع أصدقائه الذين يدعون الثقافة والتحضر والمدنية. ومع ذلك حين قامت الشرطة بتصفية خمسة مواطنين اتهمتهم بأنهم سرقوا الباحث الإيطالي ثم قتلوه، اتهموا بالخيانة كل من يشكك في الرواية الرسمية ويدين التصفيات الجسدية، ثم حين اعترفت الدولة للسلطات الإيطالية بأن قتل هؤلاء الخمسة كان خطأ وأنهم لا علاقة لهم بقتل ريجيني، وأنها ستسهل لجهات التحقيق الإيطالية أخذ أقوال المسؤولين الأمنيين الذين تسببوا في قتل ريجيني خلال تعذيبه، صمت الأصدقاء المتحضرون ولم يعتذروا، ولم يتراجعوا بعد ذلك عن تصديقهم الدائم للدولة في كل ما ترويه من تبريرات لجرائمها، ولم يتوقفوا عن إلقاء تهم العمالة والخيانة على كل من يدين ويلعن استمرار التصفيات الجسدية والاختفاءات القسرية وأحكام الإعدام التي تعقب محاكمات هزلية. فإذا كان صديقي يعتقد أن وقته يستحق أن يضيع على أمثال هؤلاء ظناً منه أنه سيصل معهم إلى نقطة اتفاق، فمن أنا لأحكم عليه، وأحرمه من رياضة مفضلة، تخرج الكثير من طاقته العصبية وتجعله يشعر بجدوى الحياة.
ولأنني استوعبت الدرس، لم أرسل مقولة ألبير قصيري لكاتبة صديقة دخلت في معركة أشد ضراوة مع أصدقاء ومتابعين اتهموها بأنها تكره للمصريين الفرحة، وأنها باتت تفكر بنفس طريقة المتطرفين الكارهين للحياة، كل ذلك لأنها كتبت تنتقد الإفراط في هز الأرداف على أنغام أغنية كتبت كمرثية لشهداء الإرهاب، مطالبة باستثناء هذه الأغنية فقط من قائمة الأغاني الوطنية الراقصة التي تكيد الإخوان والطابور الخامس، ويكفي ما جرى لها على أيدي مديري المدارس من مساخر.
كثير ممن هاجموا الصديقة ينتمون إلى صنف (عشاق الشعوب) الذي يروج بكثافة في كافة المواسم، وهو صنف يعتبر أن مجرد إعلان حبه للشعب، ذلك الكائن الخرافي الذي يتحدث الجميع باسمه طغاة وثواراً وضحايا وجلادين ومعرصين ومنظرين، يعطيه الحق في احتقار ولعن كل من ينتقد أي تصرف أو سلوك يرتكبه مجموعة من البشر الذين يتنفسون تراب الوطن ويعيشون في ما لم يتم بيعه بعد من أراضيه. يحب هذا الصنف أن يحشو كلامه بمفردات من نوعية (الغلابة ـ ملح الأرض ـ البسطاء ـ المهمشين)، ومع تطور أي نقاش سيقول لك قولاً ثقيلاً عن أهمية النزول للناس والتوعية وطاقة النور والقدوة الحسنة، لكنه حين تضغط عليه الحياة بقسوة وتضعه في اختبارات صعبة مع أفراد أو جماعات من «الشعب»، سيتحول في الغالب إلى الطرف المقابل الكاره للشعوب برمتها، والساخط عليها لأنها تخذله في اختياراتها الانتخابية والسياسية، وسيحشو كلامه بمفردات من نوعية (الجهلة ـ العبيد ـ الهمج ـ الغوغاء)، وبدون أي نقاش سيقول لك إن البعد عن الناس غنيمة والحل هو النيزك وأي رهان على الناس رهان على العدم. سيدهشك أن بعض المنتمين إلى هذا الصنف سيستشهد في كلامه بعمر سليمان وبعضهم بسيد قطب وبعضهم يمكن أن يستشهد بألبير قصيري، ولن يدهشك أن جميع هؤلاء لن يفضلوا التعامل بمنطقية مع تصرفات أي مجموعات بشرية يطلقون عليها اسم الشعب، لفهم دوافعها وأسبابها.
على ذكر الاستشهادات، لا أريد أن يأخذنا الكلام، قبل أن أؤكد أن الاستشهادات استرشادات، لا يجب أن يحملها عاقل أكثر مما تحتمل، ولذلك أحب مقولة ألبير قصيري المقتطعة من سياق روايته، وقد لا تعبر عن موقفه شخصياً، لأنها تمكنت من تكثيف موقفي من كثير مما حدث ويحدث في مصر، فضلاً عن أنها تفسر الإمعان المجنون في القتل والبطش الذي يقوم به السيسي ضد كل من يعارضه أو ينتقده أو يسخر منه، لدرجة أن الأطفال الرضع والشيوخ والمرضى لم يسلموا من قمعه، وقد كانوا يستثنون من ذلك القمع في عهود سابقة، كانت تتسامح مع المعارضة والنقد والسخرية إذا لم تشكل خطراً عليها، ليس لأن قلوب الحكام وقتها كانت أطيب وأرق، بل لأن القشرة المدنية التي تغلف الواقع السياسي السلطوي، كانت تستدعي وجود انطباع عام أن هناك عقلاً سياسياً في رأس السلطة يقوم بفرملة القمع حين اللزوم، ويستطيع أن يتحول من وضع البطش إلى وضع الرحمة، وأن الرئيس الأب الصارم الحازم البتار يمكن أن يؤدي بسهولة دور الأب الحنون العطوف الرحيم. ولم يكن الكثيرون يبالون بأن يقيموا أداءه في الحالتين، بقدر ما كان يريحهم إحساس أن هناك من يقوم بوعي ما وبشكل ما، بتقسيم الأدوار وتغيير الأوضاع ولا مؤاخذة، ولعلك بهذه المناسبة تذكر تلك النكتة التاريخية التي كان المواطن فيها يقوم بإرسال قبلات للرئيس أثناء إلقاء خطابه التاريخي، وحين سأله الرئيس عما يفعله، قال المواطن: أصل سيادتك ما فيش جنس من غير بوس.
ستبدو لك تلك النكتة بعيدة جداً عن سياق الحفر على الناشف الذي ابتدعه السيسي كأسلوب حكم ولا يزال يمعن فيه كل يوم، وهو ما يجعله حاكماً جديداً على التصورات المصرية الحديثة عن الحاكم وطريقة إدارته للدولة، لكن ذلك يجعله في نفس الوقت حاكماً قديماً ينتمي إلى عصور المماليك والفاطميين والعثمانيين، حيث كانت علاقة الدولة بالمواطن لا تدار في إطار تعاقد ضمني جمعي ثابت أو شبه ثابت، بل يتم صياغتها وفقاً لمزاج الحاكم المسكون بالهلاوس والمخاوف والنزوات، وربما كان ما يساعد السيسي على إدارة البلاد بهذه الطريقة، أنها الطريقة نفسها التي يحكم بها حلفاؤه القريبون بلادهم، لكن مهمته لن تكون سهلة مثل مهمتهم بحكم بؤس الواقع الاقتصادي وتشظي شبكات الفساد، وهو ما أظنه لا يغيب عنه بحكم التجربة، ولذلك يمعن في القمع والبطش، ويدير حكمه بتلك العشوائية الغريبة التي تحير معاونيه قبل معارضيه، وتثير قلق حلفائه وداعميه.
يطول الحديث بما لا تتسع له المساحة، وحتى نستأنفه في وقت لاحق، دعني أختم بأنه فيما يتعلق بالقمع والبطش، ستجد مستويين مختلفين تمارسهما أجهزة السيسي، مستوى يبدو للبعض عبثياً وغير منظم ولا معنى له، لكن عبثيته وعشوائيته هي التي تجعل لذلك القمع معناه المهم والمؤثر الذي يعرفه ضباط الأجهزة السيادية الذين تم تربيتهم على الغالي، أما المستوى الثاني من القمع فهو منظم ومنهجي ويستهدف كل من يبحث بشكل عملي عن طريق للخروج، بعيداً عن اليأس واللطم والمزايدات والمهاترات وتصفية الحسابات، وسيكون هؤلاء هم الهدف الأكبر في الفترة المقبلة، التي سيتواصل فيها الحفر على الناشف، حتى وإن نصح الحلفاء بقليل من البوس والحنان، للظهور بمظهر المسيطر الرحيم، ولأنني أحسبك من هؤلاء الذين لا يملكون رفاهية اليأس والانزواء وعدم الاكتراث، فمحبتي تجعلني أذكرك بمقولة ألبير قصيري، لتوفر طاقتك اليومية لما تعتقد طبقاً لتجربتك أنه أجدى، وإذا لم تكن لديك طريقة تقاوم بها العنف والتوحش، فلماذا تفرط في سلاح ناجع هو السخرية، التي ليس من العيب في أيام غبراء كهذه أن تتبين حدودها الآمنة، وتتوقف عن الانجرار وراء المزايدات، وتدرك أهمية البقاء على قيد الحياة وبكامل العقل والوعي، حتى يجيء الحفر على الناشف بآخره، ولا أظنك تنكر أن العلم أثبت أن كل شيء له آخر، حتى الحفر على الناشف.
أو هكذا أظن.