حين يموت أحبابي أتذكر الموت، ولست في ذلك بِدعاً من البشر الذين يهدم الموت لذة إحساسهم باتساع الحياة وطولها، ولذلك أسموه (هادم اللذات)، وهل من لذة أعظم من اعتقادك الدائم أن لديك المتسع من الوقت لتسعد بحياتك أو تحاول تغيير شقائها أو تصلح ما أفسدته منها؟ المشكلة أنني بحكم الظروف تورطت في أن يكون أغلب أصدقائي أكبر سناً، ولذلك أصبحت أتذكر الموت كثيراً في السنوات الأخيرة، مع أنه لم يوفر أسباباً لتذكيري بنفسه في الماضي، ولم يربط نفسه فقط بأعمار متقدمة أو بحالات صحية متأخرة أو بحوادث فاجعة، بل أراني من أسبابه ومفاجآته تشكيلة متنوعة. ومع ذلك فأنا كباقي الخلق أنساه حتى يعاود تذكيري بنفسه، ويدفعني للتفكير في ملابسات المرة التي سيزورني فيها شخصياً، فأبدأ في التفكير في ما ينبغي أن أعده لتلك الزيارة الحتمية، ثم تلهيني الحياة فأنسى، وحين يموت أحبابي أتذكر.
في مرحلة ما من الحياة، تكون عفيّاً أو «تستعفي نفسك»، فيحلو لك أن تعبث مع فكرة الموت، وتسخر ممن يحضرهم التفكير فيه كثيراً. كان الكوميديان الجميل علاء ولي الدين من هؤلاء، كان يحدث كل أصدقائه عن إحساسه بدنو الأجل، ربما بسبب الأمراض التي كانت تضنيه، أو لما كان يثقل قلبه من أحزان، ومع ذلك لم يصدق أحد منا أنه مات، حتى حين وقفنا على قبره. ما زلت أذكر المكان العالي الذي وقفت فيه، وأنا أراهم يدخلون بجثمانه إلى القبر، تعثر أحدهم على سلم المقبرة، فتذكرت مرة كان علاء قد بدأ فيها «ريجيما» قاسياً تحت إشراف طبيب، ووسط سخرية البعض من «هيافة» ما كان يأكله من عبوة أعدها مركز غذائي ملحق بعيادة الطبيب. قال علاء إنه حريص على إنقاص وزنه هذه المرة، ليسهل مهمة من سيحملون جثمانه حين يتوفى، لكي لا يجربوا معاناة من حملوه في مشهد المظاهرة الشهير في فيلم «الناظر»، ومن يومها كلما شاركت في جنازة أو رأيت صوراً لها أو بدأت في «ريجيم»، أتذكر علاء وأقرأ له الفاتحة، وأقول لنفسي إن على الإنسان أن لا يثقل على من يحب في موته كما أثقل عليهم في حياته، مع أن الحزن الذي فجعنا بعد رحيل علاء، جعلنا نذهل عن كل شيء ونحن نحمل جثمانه. ومع أنهم يقولون إن الموت يثقل الأجساد ويفرغها من خفّتها، إلا أنني لا أذكر أن كتفي شعر بفرق بين التابوت الذي حمل جثمان عم أحمد فؤاد نجم أنحف من عرفت، وبين جثمان علاء ولي الدين، لأن الحزن في الحالتين كان مذهلاً لكل من كان حولي عن أنفسهم وأكتافهم. ولذلك أصبحت أرى أن على الإنسان إن فشل في إنقاص وزنه، أن يترك خلفه محبين صادقين يذهلهم حزنهم عن ثقل جثمانه، أو يترك خلفه «قرشين زيادة» تكفي للاتفاق مع غِلاظٍ شدادٍ، يكفون أحباءه عناء حمله، ويسهلون لهم التفرغ الكامل للحزن.
في مرحلة تالية من الحياة تكون أكثر تصدعاً، فتكتشف أن الموت مرتبط بتفاصيل «لوجستية» يجب أن تحسب حسابها جيداً، على مدى سنوات طويلة. وعلى كثرة ما شهدته من وفيات فاجعة لأصدقاء دراسة وعمل «من دوري وسني»، لا أذكر أنني شغلت نفسي بالتساؤل عن المكان الذي سأدفن فيه، ربما لأنني حين حضرت دفن جدتي في مدافن راس العمود بالإسكندرية، فهمت أن كل من يموت من عائلتنا، يمكن أن يدفن هناك «إن أحب». وحين عبرت سن الخامسة والثلاثين، وفي إطار خطة شاملة لتغيير حياتي، قررت أن أكتب وصيتي، وقلت لزوجتي أنني سأوصي بدفني إلى جوار جدتي، قريباً من المنطقة التي عشت فيها أجمل أيام حياتي، وأنها ستكون فرصة لكي تقضي الأسرة «يومين في اسكندرية» كلما فكرت في زيارتي. ولأن زوجتي خاضت معي مراراً، بكسر الميم وفتحها، حوارات من نوعية «ربنا يجعل يومي قبل يومِك» وما يرتبط بها من ميلودراما، فقد اكتفت بالصمت. المشكلة أنني حين غيرت رأيي، وأصبحت أعتقد أن الإنسان يجب أن يدفن في المكان الذي توافيه فيه المنية، دون أي تعقيدات يحملها للآخرين، تذكرت أن وصيتي مودعة في خزانة عصام سلطان صديقي ومحاميّ، وأن عصام شفاه الله مدفون بالحياة في سجون السيسي، ولا أحد يهتم بالدفاع عن حقه في الحرية والمعاملة الكريمة، مثله مثل آلاف سجناء الرأي الذين لم تثبت علاقتهم بالإرهاب ولم يخضعوا لمحاكمات عادلة، والذين يعتقد الملايين في بلادنا أن بقاءهم مرميين في السجون سيجلب لهم الأمن والتقدم، وهم على أي حال ألطف وأرق من ملايين أكثر عدداً يعتقدون أن قتلهم الفوري هو الذي سيجلب الأمن والتقدم.
كانت فكرتي عن المكان الذي يجب أن يدفن فيه الإنسان قد بدأت في التغير، حين خضت في عام 2011 رحلة البحث عن قبر عبد الله النديم في مقابر اسطنبول، مجدداً دعوات قديمة متكررة بإعادة جثمانه إلى مصر، وحين فشلت المهمة التي كتبت تفاصيلها من قبل، وحان أوان مغادرتي اسطنبول، نظرت إلى مياه البوسفور من فوق تلة في مدافن يحيى أفندي تغص بالقبور والأشجار، وقلت لنفسي وأنا أستنشق الهواء العليل أن النديم الذي أحببته، لو رآني الآن لقال إن من الحماقة أن يغادر الإنسان «طربة ترد الروح» مثل هذه، ليدفن في مقابر ستة أكتوبر القبيحة التي تعجز عن التنفس فيها كلما هب الهواء، قلت لزوجتي التي شاركتني المهمة ونحن نهبط تلة المقابر، أنني سأكون ممتناً لأي مجدد فقهي يبيح إدخال نظام الحرق بعد الموت، تأسياً بإخوتنا البوذيين ومن لفّ لفهم، لأن ذلك كان سيحل مشكلة النديم بعد فشل وساطات دفنه في مصر، فقد كان سيجد بالتأكيد من يتحمس لتهريب رماده في جرة، ينثر ما بها في الأماكن التي يحب أن يبقى فيها جسده إلى يوم يُبعثون. ولأن زوجتي خاضت معي من قبل حوارات عبثية عن أفكاري البديلة للعزاء التقليدي، الذي تمنيته أن يكون برنامجاً منوعاً يبدأ وينتهي بالقرآن الكريم بصوتي مصطفى إسماعيل والمنشاوي، يتخلله إذاعة الأغاني التي أحبها الفقيد وعرض مقاطع من أفلامه المفضلة وقراءة صفحات من الكتب التي يحب إعادة قراءتها، لذلك لم تعلق وقالت مبتسمة إن أفكاري رائعة، وأنني يجب أن أعرضها فوراً على أسرة أول صديق توافيه المنية، لأنهم سيسعدون بها جداً.
حين كتبت قبل أيام أرثي العزيز الغالي د. أحمد خالد توفيق، والذي كان أيضاً من أصدقائي الذين تحضر لديهم سيرة الموت كثيراً، بسبب ظروفه الصحية، وبسبب فهمه لحقيقة الحياة وإدراكه لهشاشتها، تلقيت رسالة من مواطن سيساوي شريف، هاجم فيها الراحل الكريم لأنه أدان مذبحة رابعة وتطاول على الذات السيساوية العلية، ثم ختم رسالته الدافئة بأنه يتمنى أن أموت خارج مصر، وألا أنال شرف الدفن فيها. لم تكن الرسالة مفاجئة لي، لأنني تلقيت رسائل مماثلة في مناسبات مختلفة، أعتبرها إطراءً أتمنى أن أستحقه، لأنها تعني أنني أحدثت أثراً عميقاً في نفوس الراسلين وشخصياتهم، وأنهم باتوا يهتمون بمصيري أكثر مما أهتم به، ولذلك تنبهت أنني منذ أقمت في نيويورك، لم أفكر أبداً في أسعار مدافنها، مع أنني أمر في طريقي إلى العمل على واحدة من أجمل مقابرها، لعلك شاهدته في بعض الأفلام، أعني مقبرة كالفاري «الرائعة» التي تطل على مشهد ناطحات سحاب مانهاتن الشهير.
وحين سألت صديقاً أستشيره في بواطن الأمور، قال متبرماً لأنه لا يحب سيرة الموت، أنها مقبرة لا مكان فيها للمسلمين الذين تقع مدافنهم في نيوجرسي، فتذكرت صديقاً فلسطينياً ذهب لزيارة قبر رفيقه في النضال الذي ارتاح من كرم الأنظمة العربية وحفاوتها الدائمة بالفلسطينيين، فعاش في نيويورك ومات في نيوجرسي. كان صديقي متأثراً جداً بزيارة قبر رفيقه، وحين سألته عن وصف المدافن قال إن الخضرة حولها خلابة وأنه مر في طريقه إليها بأكثر من نهر وبحيرة، وأن صديقه ربما اختار ذلك المكان الجميل بالذات، ليستمتع بالرحلة كل من يزوره، ومع ذلك لم أقتنع بالفكرة، وقلت لزوجتي إنني سأبحث أكثر في ملابسات ترحيل المسلمين إلى مقابر نيوجرسي، واستبعادهم من مقابر نيويورك، التي تثير انبهاري كلما زرتها أو عبرت إلى جوارها، وأن هذا التمييز لا يجب أن يقبل بسهولة، لكي تتسع قائمة المدافن، التي يختار منها أهالي وأحباء من شغلهم الإفلات من فخاخ الحياة، أكثر من الانشغال بترتيبات الموت المباغت. ولأنني أرهقت زوجتي في السنوات الماضية بتذكر الذين فقدتهم فجأة، وبذكر ما أتمنى أن أكمله قبل أن أموت فجأة، لم تعلق واكتفت بالدعاء أن يلهمها الله الصبر وطولة البال، في الحياة قبل الممات.
«ما نجيلكوش في حاجة وحشة».
في مرحلة ما من الحياة، تكون عفيّاً أو «تستعفي نفسك»، فيحلو لك أن تعبث مع فكرة الموت، وتسخر ممن يحضرهم التفكير فيه كثيراً. كان الكوميديان الجميل علاء ولي الدين من هؤلاء، كان يحدث كل أصدقائه عن إحساسه بدنو الأجل، ربما بسبب الأمراض التي كانت تضنيه، أو لما كان يثقل قلبه من أحزان، ومع ذلك لم يصدق أحد منا أنه مات، حتى حين وقفنا على قبره. ما زلت أذكر المكان العالي الذي وقفت فيه، وأنا أراهم يدخلون بجثمانه إلى القبر، تعثر أحدهم على سلم المقبرة، فتذكرت مرة كان علاء قد بدأ فيها «ريجيما» قاسياً تحت إشراف طبيب، ووسط سخرية البعض من «هيافة» ما كان يأكله من عبوة أعدها مركز غذائي ملحق بعيادة الطبيب. قال علاء إنه حريص على إنقاص وزنه هذه المرة، ليسهل مهمة من سيحملون جثمانه حين يتوفى، لكي لا يجربوا معاناة من حملوه في مشهد المظاهرة الشهير في فيلم «الناظر»، ومن يومها كلما شاركت في جنازة أو رأيت صوراً لها أو بدأت في «ريجيم»، أتذكر علاء وأقرأ له الفاتحة، وأقول لنفسي إن على الإنسان أن لا يثقل على من يحب في موته كما أثقل عليهم في حياته، مع أن الحزن الذي فجعنا بعد رحيل علاء، جعلنا نذهل عن كل شيء ونحن نحمل جثمانه. ومع أنهم يقولون إن الموت يثقل الأجساد ويفرغها من خفّتها، إلا أنني لا أذكر أن كتفي شعر بفرق بين التابوت الذي حمل جثمان عم أحمد فؤاد نجم أنحف من عرفت، وبين جثمان علاء ولي الدين، لأن الحزن في الحالتين كان مذهلاً لكل من كان حولي عن أنفسهم وأكتافهم. ولذلك أصبحت أرى أن على الإنسان إن فشل في إنقاص وزنه، أن يترك خلفه محبين صادقين يذهلهم حزنهم عن ثقل جثمانه، أو يترك خلفه «قرشين زيادة» تكفي للاتفاق مع غِلاظٍ شدادٍ، يكفون أحباءه عناء حمله، ويسهلون لهم التفرغ الكامل للحزن.
في مرحلة تالية من الحياة تكون أكثر تصدعاً، فتكتشف أن الموت مرتبط بتفاصيل «لوجستية» يجب أن تحسب حسابها جيداً، على مدى سنوات طويلة. وعلى كثرة ما شهدته من وفيات فاجعة لأصدقاء دراسة وعمل «من دوري وسني»، لا أذكر أنني شغلت نفسي بالتساؤل عن المكان الذي سأدفن فيه، ربما لأنني حين حضرت دفن جدتي في مدافن راس العمود بالإسكندرية، فهمت أن كل من يموت من عائلتنا، يمكن أن يدفن هناك «إن أحب». وحين عبرت سن الخامسة والثلاثين، وفي إطار خطة شاملة لتغيير حياتي، قررت أن أكتب وصيتي، وقلت لزوجتي أنني سأوصي بدفني إلى جوار جدتي، قريباً من المنطقة التي عشت فيها أجمل أيام حياتي، وأنها ستكون فرصة لكي تقضي الأسرة «يومين في اسكندرية» كلما فكرت في زيارتي. ولأن زوجتي خاضت معي مراراً، بكسر الميم وفتحها، حوارات من نوعية «ربنا يجعل يومي قبل يومِك» وما يرتبط بها من ميلودراما، فقد اكتفت بالصمت. المشكلة أنني حين غيرت رأيي، وأصبحت أعتقد أن الإنسان يجب أن يدفن في المكان الذي توافيه فيه المنية، دون أي تعقيدات يحملها للآخرين، تذكرت أن وصيتي مودعة في خزانة عصام سلطان صديقي ومحاميّ، وأن عصام شفاه الله مدفون بالحياة في سجون السيسي، ولا أحد يهتم بالدفاع عن حقه في الحرية والمعاملة الكريمة، مثله مثل آلاف سجناء الرأي الذين لم تثبت علاقتهم بالإرهاب ولم يخضعوا لمحاكمات عادلة، والذين يعتقد الملايين في بلادنا أن بقاءهم مرميين في السجون سيجلب لهم الأمن والتقدم، وهم على أي حال ألطف وأرق من ملايين أكثر عدداً يعتقدون أن قتلهم الفوري هو الذي سيجلب الأمن والتقدم.
كانت فكرتي عن المكان الذي يجب أن يدفن فيه الإنسان قد بدأت في التغير، حين خضت في عام 2011 رحلة البحث عن قبر عبد الله النديم في مقابر اسطنبول، مجدداً دعوات قديمة متكررة بإعادة جثمانه إلى مصر، وحين فشلت المهمة التي كتبت تفاصيلها من قبل، وحان أوان مغادرتي اسطنبول، نظرت إلى مياه البوسفور من فوق تلة في مدافن يحيى أفندي تغص بالقبور والأشجار، وقلت لنفسي وأنا أستنشق الهواء العليل أن النديم الذي أحببته، لو رآني الآن لقال إن من الحماقة أن يغادر الإنسان «طربة ترد الروح» مثل هذه، ليدفن في مقابر ستة أكتوبر القبيحة التي تعجز عن التنفس فيها كلما هب الهواء، قلت لزوجتي التي شاركتني المهمة ونحن نهبط تلة المقابر، أنني سأكون ممتناً لأي مجدد فقهي يبيح إدخال نظام الحرق بعد الموت، تأسياً بإخوتنا البوذيين ومن لفّ لفهم، لأن ذلك كان سيحل مشكلة النديم بعد فشل وساطات دفنه في مصر، فقد كان سيجد بالتأكيد من يتحمس لتهريب رماده في جرة، ينثر ما بها في الأماكن التي يحب أن يبقى فيها جسده إلى يوم يُبعثون. ولأن زوجتي خاضت معي من قبل حوارات عبثية عن أفكاري البديلة للعزاء التقليدي، الذي تمنيته أن يكون برنامجاً منوعاً يبدأ وينتهي بالقرآن الكريم بصوتي مصطفى إسماعيل والمنشاوي، يتخلله إذاعة الأغاني التي أحبها الفقيد وعرض مقاطع من أفلامه المفضلة وقراءة صفحات من الكتب التي يحب إعادة قراءتها، لذلك لم تعلق وقالت مبتسمة إن أفكاري رائعة، وأنني يجب أن أعرضها فوراً على أسرة أول صديق توافيه المنية، لأنهم سيسعدون بها جداً.
حين كتبت قبل أيام أرثي العزيز الغالي د. أحمد خالد توفيق، والذي كان أيضاً من أصدقائي الذين تحضر لديهم سيرة الموت كثيراً، بسبب ظروفه الصحية، وبسبب فهمه لحقيقة الحياة وإدراكه لهشاشتها، تلقيت رسالة من مواطن سيساوي شريف، هاجم فيها الراحل الكريم لأنه أدان مذبحة رابعة وتطاول على الذات السيساوية العلية، ثم ختم رسالته الدافئة بأنه يتمنى أن أموت خارج مصر، وألا أنال شرف الدفن فيها. لم تكن الرسالة مفاجئة لي، لأنني تلقيت رسائل مماثلة في مناسبات مختلفة، أعتبرها إطراءً أتمنى أن أستحقه، لأنها تعني أنني أحدثت أثراً عميقاً في نفوس الراسلين وشخصياتهم، وأنهم باتوا يهتمون بمصيري أكثر مما أهتم به، ولذلك تنبهت أنني منذ أقمت في نيويورك، لم أفكر أبداً في أسعار مدافنها، مع أنني أمر في طريقي إلى العمل على واحدة من أجمل مقابرها، لعلك شاهدته في بعض الأفلام، أعني مقبرة كالفاري «الرائعة» التي تطل على مشهد ناطحات سحاب مانهاتن الشهير.
وحين سألت صديقاً أستشيره في بواطن الأمور، قال متبرماً لأنه لا يحب سيرة الموت، أنها مقبرة لا مكان فيها للمسلمين الذين تقع مدافنهم في نيوجرسي، فتذكرت صديقاً فلسطينياً ذهب لزيارة قبر رفيقه في النضال الذي ارتاح من كرم الأنظمة العربية وحفاوتها الدائمة بالفلسطينيين، فعاش في نيويورك ومات في نيوجرسي. كان صديقي متأثراً جداً بزيارة قبر رفيقه، وحين سألته عن وصف المدافن قال إن الخضرة حولها خلابة وأنه مر في طريقه إليها بأكثر من نهر وبحيرة، وأن صديقه ربما اختار ذلك المكان الجميل بالذات، ليستمتع بالرحلة كل من يزوره، ومع ذلك لم أقتنع بالفكرة، وقلت لزوجتي إنني سأبحث أكثر في ملابسات ترحيل المسلمين إلى مقابر نيوجرسي، واستبعادهم من مقابر نيويورك، التي تثير انبهاري كلما زرتها أو عبرت إلى جوارها، وأن هذا التمييز لا يجب أن يقبل بسهولة، لكي تتسع قائمة المدافن، التي يختار منها أهالي وأحباء من شغلهم الإفلات من فخاخ الحياة، أكثر من الانشغال بترتيبات الموت المباغت. ولأنني أرهقت زوجتي في السنوات الماضية بتذكر الذين فقدتهم فجأة، وبذكر ما أتمنى أن أكمله قبل أن أموت فجأة، لم تعلق واكتفت بالدعاء أن يلهمها الله الصبر وطولة البال، في الحياة قبل الممات.
«ما نجيلكوش في حاجة وحشة».
المصدرالقدس العربي Apr 07, 2018