الرئيسية » » في الوحي.. وترتيل آيات التّجلّي | مادونا عسكر

في الوحي.. وترتيل آيات التّجلّي | مادونا عسكر

Written By هشام الصباحي on الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014 | 9:06 ص

في الوحي.. وترتيل آيات التّجلّي
قراءة في قصيدة " وحي."  لمادونا عسكر بقلم الأستاذ الحبيب بالحاج سالم- تونس.
- القصيدة:

وحي.
نبتعد فنقتربْ
ونبتعد لنقترب...
ونسعدْ،
ونخاف ونرهبْ
ونقوى ونضعفْ
ونسمو،
ولكن... لا نهوي
ولا نرجعْ...
نرجو وصلاً من كمال الأزل مكوّنْ
على وقع الأبد يتراقص ويعدو خلف غيمة  تتلوّنْ
وكلّما أنشد الملاك السّابع نشيده تغتبط وتثملْ...
إلى ما بعد الأبد نتطلّعْ
إلى كرمة سائغة تتدلّى منها عناقيد الصّلاة وتلمعْ
نشتهي أن نتجرّع مدامها في ملكوت حلّ منذ البدء فينا وتضوّعْ...

من صوتك يا سيّدي الحبيبْ
نهلت  هذه الكلماتْ...
أشرقت عليّ من ثغرك كالنّورْ
كلمعان السّحر الخجولْ...
كوميض البرق يمهّد لبركات الجوْدِ
يبشّر بمواسم خضراء عطش الحقولْ...
صوتك تغريد العصافير العائدة من رحلة أيلولْ
بسمات الجوى المنبعثة من عطور الشّوقِ
تغنّي اسمك فتنهض الجنان من غفوها تبلّغ ترانيم السّرورْ...

كلامك العذب يا سيّدي الحبيبْ
ينفخ روحه في مسمعي
وعلى ماء قلبي يرفرف وينثر حبيبات النّورْ...
يلتقط الشّفق البعيد ويغسلني بأرجوانه، فتستحي الشّمسُ
وخلف الأزرق الشّفاف ترتحل، وتغيبْ...
منك ولك أصوغ شعري وأبني قصائدي
هياكل حبّ مبعثرة في كلّ البلادْ
عسى أن يمرّ العاشقون بها
يقتاتون من خبز مذبحك نسائم الضّياء فيحيونْ،
ويرتوون من خمرك الزّلال فيرتقونْ...
سيّدي...
هو ذا كلامك ينسكب كالفجر على أكفّ الورودْ
يندّي بكائرها،
يرطّب ألبابها...
ويتدفّق كالطّلّ على روحي
يمتزج بحناياها،
يختلط بأنفاسها،
فتنتفي الأنا بين أمواجك المدويّة
وتغرق في عمق بحرك الخلّابْ
وفي العمق الأخير تمكث وتقيمْ
إلى أن تنادينا شعلة الحبّ المتوهّجة
وتجذبنا إلى مساكن السّماءْ
حيث الوصل برهة عشق تغتزل الأبدْ
ولحظة أزل تختصر قصائد عديدة
يعجز حرفي عن البوح بها...

- القراءة:
للشّاعرة، ككلّ شاعر وشاعرة، علاقة باللّغة والكلام والكلمة، هي غير مألوف العلاقة في سائر سياقات التّواصل. وهي في مختلف نصوصها تختصّ بالتعبير عن تصوّر كونيّ لهذه العلاقة، إذ ترى كلّ ما في الكون والتّاريخ والطّبيعة والإنسان، وكلّ ما يكون، لا يكون إلاّ لغويّاً...إلاّ لغة.. والأطرف من كلّ ذلك أنّ الشّاعرة في سائر نصوصها، وفي هذا النص أنموذجاً، تذهب إلى أنّ كلّ الكون باعتباره لغة ، ما كان إلاّ ليقول " لحظة" هي لحظة كون (كُنْ) وحبّ وشعر وصمت وأبد. كلمة كانت بدءاً وظلّت وحياً، وتبقى أبداً، وما الفنّ، وما الشّعر إلا استعادة لهذه اللّحظة المستحيلة:
 "..لحظة أزل تختصر قصائد عديدة
   يعجز حرفي عن البوح بها..."
وهي أبدا تسعى أن تقدر..فتستعيد (استحضاراً) الكلمة/ الوحي، بدءاً وفيضاً وحبّاً ووجوداً وحياة وموتاً وانبعاثاً وأبداً...
وهذا النّصّ من حيث بنيته هو ترجمان لهذا الوعي وهذا التمثّل الرّحي العشقيّ للكون لغة وحبّا وأبداً...
1)   الوحي التّكوينيّ. في البدء كان النّشيد..:
تستعيد الشّاعرة لحظة البدء هذه باعتبارها لحظة سابقة للتّكوين، واصلة بين الأزل والأبد، نشيدا يردّده "الملاك السّابع" في اغتباط وانتشاء :

" وكلّما أنشد الملاك السّابع نشيده تغتبط وتثملْ...
إلى ما بعد الأبد نتطلّعْ
إلى كرمة سائغة تتدلّى منها عناقيد الصّلاة وتلمعْ
نشتهي أن نتجرّع مدامها في ملكوت حلّ منذ البدء فينا وتضوّعْ..."

وهو أيضا " نشيد قيامة" باباً ينفتح على الأبد، للحلول في الملكوت الأوّل، الذي كان في البدء وقبل البدء. وتحكيه الشّاعرة مشبعة ب "سفر الرّؤيا"  وروح الأسطورة والكون الخمريّ الاحتفاليّ المقدِّس لهذه اللّحظة الأبديّة الماضية المستعادة نشيداً وصلاة وعطراً.
و"استعاديّة " النّشيد من حيث هو استحضار للحظة القديمة، ووحياً كلاماً نشيداً مقدّساً يخترق الآفاق، هو نفي للمسافة والهوّة الرّهيبة الفاصلة بين اللّه/الحبّ والإنسان الغريب في العالم. ولذلك جاء نشيداً "جمعيّاً" ينصهر فيه الصّوتان ترجماناً للحنين والشّوق. شوق الإنسان إلى الله، وشوق اللّه إلى الإنسان... ويتّسع معنى المسافة ليشمل المكان والقدرة والحال والرّغبة. فينصهر ويستوي القرب والبعد، والخوف واليقين والسّعادة والرّهبة والقوّة والضّعف، رجاء  " وصل من كمال الأزل مكوّنْ.."

" نبتعد فنقتربْ
ونبتعد لنقترب...
ونسعدْ،
ونخاف ونرهبْ
ونقوى ونضعفْ
ونسمو،
ولكن... لا نهوي
ولا نرجعْ...
نرجو وصلاً من كمال الأزل مكوّنْ
على وقع الأبد يتراقص ويعدو خلف غيمة  تتلوّنْ.."

2)   الوحي الإشراقيّ.. حضور النّشيد في العالم
في عبارة "شبه مباشرة " وصريحة،  تعتبر الشّاعرة أنّ صوتها امتداد للصّوت الإلهيّ "النّازل" من السّماء وحياً، نصّاً وإلهاماً ووجوداً وأشياء:

" من صوتك يا سيّدي الحبيب
نهلت  هذه الكلماتْ..."

فعاشت لحظة الوحي إشراقاً ونوراً وسحراً لا يدركها إلاّ من ملك القدرة على الإصغاء إلى الصّوت الإلهيّ في أدغال الكون  وأقاصيه، وفي أعماق الكيان :

" أشرقت عليّ من ثغرك كالنّورْ
كلمعان السّحر الخجولْ..."

واستعارة للأسطورة، يفيض الصّوت الإلهيّ بركة وجوداً وبرقاً وماء وخصباً ونباتاً وزرعاً وجناناً وعصافير وتغريداً.. فإذا الصّوت نشيد كونيّ يردّد الوحي الإلهيّ العشقيّ، تعبيراً عن الشّوق واحتفاء وسروراً بالوصل، وتغنّيا بالحبيب المقدّس :

" كوميض البرق يمهّد لبركات الجوْدِ
يبشّر بمواسم خضراء عطش الحقولْ...
صوتك تغريد العصافير العائدة من رحلة أيلولْ
بسمات الجوى المنبعثة من عطور الشّوقِ
تغنّي اسمك فتنهض الجنان من غفوها تبلّغ ترانيم السّرورْ..."

3)   الوحي الإعجازيّ.. إلهام قصائد...
تحيا الشّاعرة الوحي ، كما تصوّره في هذا النّصّ، كلمة خالقة خلقاً ثانياً، نفخاً في السّمع وإخراجاً للقدّيسة السّامعة بعد إصغاء وانتظار وشوق وضراعة من العدم إلى الوجود فعلاً، ومن الانفصال إلى الاتّصال والتّماهي بينها وبين الحبيب الإلهيّ :

"كلامك العذب يا سيّدي الحبيبْ
ينفخ روحه في مسمعي 
وعلى ماء قلبي يرفرف وينثر حبيبات النّورْ..."

وكان لا بدّ أن تتحوّل الرّوح الإلهيّة وحياً يسري في الكيان، ليتحوّل في لغة العالم قصائد حبّ ومناجاة تنتشر في الأرض، فينشدها العاشقون، وتكون لهم حياة وخبزاً وخمراً.
وهكذا تتبع الشّاعرة " الكلمة " منذ انطلاقها من الملكوت الأعلى، حتّى تجلّيها خلقاً ووجوداً وكائنات وأصواتاً في العالم، وقصائد حبّ تهدي إلى صراط الحبّ الأوّل، صاحب الوحي الأوّل.. فتجعل الشّاعر صوت الله في العالم، نبيّ الله إليه يدعو، ومنه يستلهم ويستوحي أناشيده، وإيّاه يغنّي ويحبّ:

"منك ولك أصوغ شعري وأبني قصائدي
هياكل حبّ مبعثرة في كلّ البلادْ
عسى أن يمرّ العاشقون بها
يقتاتون من خبز مذبحك نسائم الضّياء فيحيونْ،
ويرتوون من خمرك الزّلال فيرتقونْ..."

4)   الوحي الصّامت...وانتفاء اللّغة...
تحكي الشّاعرة " الوحي" كما رأته وسمعته روحها، وحيته وتحياه، تحكيه في لغة لا تتيح لها إلاّ أن تشير وتقرّب وتشبّه :

"هو ذا كلامك ينسكب كالفجر على أكفّ الورودْ
يندّي بكائرها،
يرطّب ألبابها...
ويتدفّق كالطّلّ على روحي..."

ومثلما عاشته، وحاولت حكايته حدثا، حكته أثرا يهزّ الكيان، ويبعث "الأنا" العظيمة القادرة على التّعالي والخلاص من سجن العالم والجسد، والاتّصال بحبيبها السّماوي المشتاق إليها كما هي إليه مشتاقة..:

"  فتنتفي الأنا بين أمواجك المدويّة
وتغرق في عمق بحرك الخلّابْ
وفي العمق الأخير تمكث وتقيمْ
إلى أن تنادينا شعلة الحبّ المتوهّجة
وتجذبنا إلى مساكن السّماءْ.."

ومثلما كان الوحي بدءاً وخلقاً وإشراقاً ووجوداً وعشقاً وشعراً وقداسة، كان وصلاً بين البدء والمنتهى، وبين الأزل والأبد.. اختزال هو ل"برهة عشق". للحظة هي المطلق الأبديّ الذي لا تحيط به لغة العالم، وحين يراد وصفه، يُنتهى إلى الصّمت، إلى اللّغة الأخرى، لعلّها تحكي وتبين. وانتظار لهذه اللّغة خارج اللّغة يكون العجز، وفي القصور البلاغيّ بعض البيان:

"حيث الوصل برهة عشق تختزل الأبدْ
ولحظة أزل تختصر قصائد عديدة
يعجز حرفي عن البوح بها..."

والعجز  "العرفانيّ" صمت لا يقدر عليه إلا " أهل الانفراد" و"ذوو المعارف.."(1)
وشاعرتنا من خاصّتنا هؤلاء القوم الذين علموا فصمتوا، وتركوا الاستدلال عمّن لا يُستدلّ عليه إلاّ بالوحي...


(1)            العبارة للحلاّج.









التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.