“شكراً لمؤسسات الدولة السيادية”. هذه العبارة، ذات المغزى الواضح، تحكم مسار العملية الإبداعية، في مصر، وآلياتها.
وتفسر، هذه الجملة، حجم الدور الملتبس، وغير المحدد، الذي تمارسه أجهزة الدولة “السيادية”، كما وصفها المخرج المصري والبرلماني، خالد يوسف، مؤلف ومخرج فيلم “كارما”، الذي منع عرضه بداية الشهر الماضي ثم أعيد السماح به بعد أن ذيل بموافقة “الجهات السيادية” فكان لخالد يوسف هذا الشكر المباشر للجهات السيادية أو بمعنى آخر لمختلف أجهزة المخابرات والأمن.
ومنذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، في 2013، وما تمخض عنه، من أحداث سياسية متلاحقة وسريعة، بدا واضحاً أن الانفراجة التي أعقبت الربيع العربي، منذ عام 2011، ستأخذ منعرجاً آخر، بيد أن الوقائع، كانت تسبق كل التصورات، وتفسد أي مقدرة فذة على التحليلات.
ويبدو انشغال السلطة بمراقبة وضبط مختلف أشكال الإبداع وحرية التعبير، سواء في الصحافة أو الدراما أو المسرح أو السينما، وتقييدها كل الفنون، استثنائي وصادم، إذا ما تمّت مقارنته بمختلف العهود التي حكمت مصر سواء لناحية الكم أو النوع. فالحكم الحالي يراكم موقف عدائي باستمرار ضد كتاب وفنانين ومبدعين، باعتبارهم خرجوا عن سياق الخضوع السياسي لرؤية النظام، وبالتالي ينظر للأعمال الفنية والابداعية من زاوية واحدة هي مدى نقدها ومعارضتها للحكم، وهو ما يعني، في المقابل، مصادرة العمل والحبس لكل صناعه، والتشنيع والتشهير ضدهم.
الدكتورة إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، تم تعيينها في إطار تعديلات وزارية محدودة، وهي خطوة اعتبرها البعض جيدة، لكونها سيدة وفنانة.
لكن، الفنانة لم تتبن، للحظة، موقفاً ينحاز للفن والحرية، بل ساهمت في المزيد من الرقابة والمصادرة والمنع، وحبس صناع الإبداع، وعدم الدفاع عنهم.
وسليمان خاطر، الذي تحمل المسرحية اسمه، هو الجندي المصري، الذي قتل سبعة إسرائيليين، في سيناء، أثناء خدمته بالجيش المصري، في الموقع المسؤول عن حمايته، بسبب تسللهم إلى الحدود المصرية، وعدم رضوخهم لتحذيراته، بتجاوز الحدود المصرية- الإسرائيلية، فأطلق النيران عليهم، وتمت محاكمته ومات في السجن (مقتولاً أو منتحراً)، وسط رفض وتعاطف شعبي مصري، اعتبر المحاكمة هزلية، وجزءاً من التنازلات التي تقدمها الحكومة لإسرائيل لكسب رضاها.
واعتبر البلاغ، الذي رفعه أحد المحامين المصريين، أن المسرحية التي عرضت، في أحد نوادي القاهرة، تتهكم من الجيش المصري، وطالب بوقف عرض المسرحية، وإحالة كل من شارك في هذا العمل، إلى المحاكمة الجنائية، لمساهمته في إعداد مشاهد، تنال من الجيش المصري، وضباطه وجنوده.
وترتب على البلاغات المقدمة، أن أدت إلى حبس أفراد من طاقم عمل مسرحية “سليمان خاطر”، ومصادرة ديوان الشعر وحبس مؤلفه. المصير ذاته، تعرض له صناع فيلم “سالب 1095 يوم”.
بين اعتبارها “إساءة لكل المصريين” و”خيانة عظمى” في وقت الحروب هي تهم ابتكرها النظام الحالي لمن يهاجمون مؤسستي الجيش والشرطة.
لم تعمد الوزيرة الى تطوير مقار هيئات قصور الثقافة، المنتشرة في محافظات مصر، والتي تعيش حالة رثة، وتعاني من الإهمال، وتحتاج إلى الترميم والتجديد، ومدها بالموارد، وجذب الأنشطة والمبدعين لها، وفك العزلة التي يعانون منها، بسبب المركزية الشديدة الموجودة في العاصمة. بالعكس، فقد أصدرت، وزيرة الثقافة، الشهر الماضي، قراراً بإنشاء مقار للإدارة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية، في سبع محافظات مصرية، وسيتم استغلال هذه الهيئات كمقار لـ”الرقابة” على الفنون والانشطة الثقافية. وتزامن مع صدور القرار بإنشاء مقرات للرقابة على المصنفات الفنية، هجوم شرس، طوال أسبوعين، من إعلاميين وكتاب صحافيين ومحامين، محسوبين على النظام، بسبب العرض المسرحي “سليمان خاطر”، وديوان شعر “خير نسوان الأرض”، واتهام المسؤولين عن العملين، بالإساءة إلى الجيش ودعم الإرهاب.
هاتين التهمتين أطلقهما الرئيس السيسي شخصياً وذلك، أثناء افتتاح مدينة العلمين الجديدة، في آذار (مارس) الماضي. فقد دعا السيسي في كلمته، جهات الدولة الإعلامية والثقافية والتعليمية، إلى مراجعة أنفسهم والتصدي من دون طلب، لمحاولات الإساءة إلى مؤسستي الجيش والشرطة.
يشير المخرج المستقل أحمد عصام، إلى أن حوادث العدوان على الإبداع ومصادرة ومنع الأفلام، خلال حكم السيسي متعددة ومتكررة، وتسبقها إشارات غضب وتحذير، من الرئيس وتوجيه منه، والتي تكون بمثابة إشارة للتحرك والهجوم. ويضيف بأن الشرطة المصرية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، منعت عرض فيلم “للي حصل في هيلتون”، الذي يكشف وجود شبكة فساد معقدة، تتحكم بمفاصل منظومة الشرطة، وتتغلغل داخلها، وتحول دون الوصول إلى مرتكبي الجرائم.
وفي حديثه لـ”درج”، يوضح عصام، أن من الأحداث العبثية، ما تعرض له مسلسل “لا تطفئ الشمس”، في رمضان الماضي، عندما صودف، في إحدى الحلقات وأثناء التصوير، ظهور شعار ضد عبدالفتاح السيسي، على أحد الجدران، حيث كتب “السيسي خائن”، ما اضطر صناع الفيلم تحت وطأة الهجوم وتفادي المشكلات ووقف العمل، إلى توضيح الموقف بأنه محض خطأ في التصوير، ولم يكن مقصوداً، وبالفعل، تم حذف الحلقة ومحو الجملة من خلفية المشهد، وفق عصام.
وبحسب المخرج الشاب، فإن السلطة الحالية، التي تتدخل فيها أجهزتها “السيادية” والأمنية، في إنتاج الأعمال الفنية، وتكون لها اليد الطولى، في العرض والمنع، لن ترضى سوى بمنتج فني وإبداعي يكون في خدمة أهدافها.
وبحسب المخرج الشاب، فإن السلطة الحالية، التي تتدخل فيها أجهزتها “السيادية” والأمنية، في إنتاج الأعمال الفنية، وتكون لها اليد الطولى، في العرض والمنع، لن ترضى سوى بمنتج فني وإبداعي يكون في خدمة أهدافها.
واستطرد: “إن التصريح الرقابي لفيلم “آخر أيام المدينة”، متوقف ولم يحصل عليه مخرج العمل تامر السعيد، حتى الآن، على رغم عرض الفيلم في دول أوروبية ومهرجانات عالمية، وحصوله على جائزة من مهرجان “برلين” السينمائي، ولكن تم منعه في مهرجان القاهرة السينمائي”.
تقدم المحامي سمير صبري، بثلاثة بلاغات عاجلة، للنائب العام ونيابة أمن الدولة العليا والمدعي العام العسكري الأول، ضد رامي عصام لخروجه بأغنية “تطاول فيها على رئيس الجمهورية”، واعتبرت أنها تسيء إلى شخص الرئيس وإنجازاته. وطالب البلاغ بإحالة «عصام» إلى المحاكمة الجنائية لأنه قام بسب رئيس الجمهورية وأهانه في شخصه، موضحاً أن هذا يعد جريمة ينص عليها قانون العقوبات، والمادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية. شن عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي حملات هجوم ضد رامي عصام، احتل بها صدارة قائمة التريندات بموقع التدوينات القصيرة «تويتر»، بسبب نشره أغنيته الجديدة «أغنية الشارع» عبر حسابه على موقع «يوتيوب» وطرح بها «إسقاطات سياسية»، إذ ظهر خلالها يتراقص مرتدياً «الفرو الأبيض»، وهو ما دفع بكثيرين إلى السخرية من مظهره. وفي المقابل، رأى نقاد موسيقيون أن ما يقدمه عبث لا صلة له بالفن، واعتبروا كلمات أغنيته لا قيمة لها، وأخرجوا ما يقدمه من دائرة الفن إلى ساحة السياسة. البلاغ الثاني قدمه المحامي ضد جلال البحيري وذلك لإصداره ديواناً بعنوان «خير نسوان الأرض» والذي طعن فيه في حديث للنبي محمد، وتطاول على القوات المسلحة وكذب أمجادها وشكك في معاركها. وطالب البلاغ بالتحقيق في الواقعة وإحالة البحيري إلى المحاكمة الجنائية..
وعلى هذا المنوال تسير الثقافة في مصر..
مصدر المقال موقع درج