لم أضع وقتي في مناقشة صديقنا بالمنطق، لأطلب منه تأمل الأسماء المذكورة في ما تزعمه من خلايا سرية، والتفكير في مواقفها وآرائها واختلافاتها مع بعضها البعض، فإذا كان الله لم يشأ له أن يفكر، هل يمكن لي أنا العبد الضعيف المَلول أن أغير مشيئة الله؟ لكني مع ذلك لم أرمِ طوبته تماماً إكراماً للزمالة القديمة، فأضعت على الكمبيوتر ثم (السكانر) ساعة احتسبتها عند الله «وحَسبنت» بها عليك، ثم أرسلت إلى صديقنا «وثيقة» موقعة بنفس توقيع خيرت الشاطر الوارد في «وثيقتك»، يصدر فيها خيرت أمراً لأمين صندوق التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في سويسرا، بصرف مبلغ خمسين ألف دولار مكافأة لك على ما قدمته من خدمات سرية لجماعة الإخوان، وقلت لصديقنا أن ما منعني من نشر هذه الوثيقة وغيرها مما خفي وكان أعظم، هو العيش والملح والأصول، وأنني سأترك له مسألة مواجهتك وإيقافك عند حدك، وحين أرسلت له بعد أسبوع أسأله عما جرى بينكما، ووجدت أنه قد حظرني من دخول صفحته وحياته، لم ألُمك لأنك أنهيت تلك الصداقة القديمة، بل لُمت (السكانر) لأنه لم يتقن أداء وظيفته في صنع الوثائق «السرية».
لعلك تذكر أن بعض أصدقائنا كانوا يسمّونك «المديوكر»، وبعضهم كان يصفك بالفاضي، وآخرون رأوا أنك أتفه من أن يُشار إليك بلقب، أما أنا فكنت أرى أنك تبذل مجهوداً في فشلك وخوائك، تستحق عليه بجدارة لقب «الكتيان»، الذي يُوصِّف بعبقرية قدرتك على الجمع بين الاعتقاد الدائم بأهميتك، والتنقل من فشل إلى فشل بمنتهى الخفة. أتذكر أنك قلت مرة لصديق لنا كان الأقدر بيننا على تحملك، أن ما يفرقك عن باقي مُجايليك هو أنك على عكسهم، محروم من حُسن الحظ، وأنا أتفق معك في أهمية الحظ والتوفيق في حالات كثيرة، لكنك نسيت أن الحظ الحسن لن ينفع عديم الاجتهاد والتمييز ببصلة، وأن الحظ الحسن لا يغني عن التعب والتحصيل وتطوير الذات، وأن الكتيان لو واتاه الحظ الحسن لانتفع به ربما بعض الشيء، قبل أن يرشق به في الحائط مجدداً، وإذا طلبت مثالاً على ذلك فانظر إلى نفسك في المرآة، ألم تخلُ لك الساحة الآن لأنك الوحيد من أبناء جيلك الذي نال رضا لواءات الإعلام والفنون والثقافة، بينما الباقون أصبحوا بين محجوب أو محتجب أو مُحارَب في رزقه وسمعته أو مهاجر طلباً للرزق أو مجبر على أداء المتاح أو قرفان مترفِّع أو تارك للجمل بما حمل، فلماذا لم تظهر بعد هذا كله ثمار عبقريتك الفذة؟ وما هو العمل الذي أنجزته مؤخراً في دنياك غير أنك تحولت إلى ضبع ينفذ تعليمات الباشا الضابط، الذي تتصور أن رضاه عنك سيدوم للأبد، وأنه سيكون شفيعاً لك إلى باشاواته الأعلى، ليمنحوك موقعاً تصفي فيه حساباتك مع من تتصور أنهم حجبوا عن الناس لسنين بهاء موهبتك الساطعة؟
لست مغيبّاً لأنكر أن رضا الباشا الضابط يمكن في هذه الأيام النّحِسات أن يؤمِّن لك منصباً أو سبّوبة، أو يزيد من حسابك في البنك، أو ينقلك من حَيِّك القديم الذي كنت تلعن الزمن لأنه ابتلاك بسكناه، لكنك نسيت أن رضا ألف بيه ضابط، لن يكتب بالنيابة عنك عملاً يؤثر أو يبهج أو يمتع أو يعيش، وأنك حين سمحت بتسكينك في دور العضّاض النابح، على أمل أن تنال نفوذاً وثراءاً يساعدك فيما بعد على الاستقرار لتكتب وتبدع وتنطلق، لم تدرك أن ذلك الدور قصير العمر للغاية، خاصة إذا كان من يلعبه مثلك، لا يملك مواهب أخرى أكثر نفعاً، كإجادة الكذب والتضليل والتزييف وتلبيس الطواقي، وغيرها من المواهب التي يعيش ملّاكها أطول، ويتمكنون من التكيف مع التقلبات الجوية الحادة في أوطاننا، والتي قد ترفع ضباطاً وتضع آخرين، لكن جميع أولئك الضباط مهما احتاجوا إلى الضباع والعضّاضين، يظل احترامهم أكبر وعطاءهم أكثر للموهوبين القدامى في التدليس والتزييف والتضليل، ولذلك ستندهش في المستقبل، حين ترى بعض من خفتت عنهم الأضواء الآن، وقد عادوا للتألق في خدمة الضباط الجدد، حاصلين على مزايا لن ينالها العضاضون القدامى من أمثالك الذين سيكون عليهم أن يفسحوا المجال لمن يعيد الجمهور الذي هجر الشاشات المملة والصحف الميتة.
أكثر ما أضحكني أنك لم تأخذ بالك من التناقض بين تنهيقاتك التي تتحدث عن نهاية عصر فلان وترتان من «الذين شاركوا في مؤامرة يناير فسكنوا مزبلة التاريخ وانتحروا سياسياً وثبتت عليهم تهمة الخيانة العظمى»، وبين حقيقة أنك تكرر تلك التنهيقات بمعدل لا يتناسب أبداً مع أناس يفترض أنهم انتهوا وانتحروا وقُضي عليهم، ولو كانوا كذلك حقاً لما شغلوك إلى هذا الحد عن الفرحة بإنجازات رئيسك الميمون، ولما تفرغت للافتراء على من تمّت بحماية رسمية ومباركة شعبية استباحة حقوقهم القانونية، ليصيروا نهباً للطعن في وطنيتهم وشرفهم وسمعتهم، لأن زملاءك في كتيبة الضباع الكتيانة يعلمون أن تليفونات البهوات الضباط زملاء «بيهك الضابط»، ستمنع تنفيذ أي أحكام قد يصدرها بحقهم قاضٍ حقّاني لا يمشي بالأوامر والتعليمات، إن بقي هناك قضاة من هذه الفصيلة المنقرضة بعد كل ما جرى في ساحة القضاء من تجريف وتقييف، بالطبع أعلم أنك لا تدرك أصلاً تناقض موقفك، وأنك حتى لو أدركته لما كان لك القدرة على الاتساق مع ما تدعيه، فتترك أولئك الخونة المنتحرين المنتهين لمكانهم في مزبلة التاريخ، وتشغل نفسك بأي شيء غير تشويههم والافتراء عليهم، فحتى لو امتلكت هذا القدر من الذكاء، لما تمكنت به من إقناع الضابط المناوب الذي رزقه الله «بجهلٍ غانيه عن كل العلم»، ويكفي من آيات جهله أنه تصور أنك أنت الذي لم تنفع نفسك بشيء، ستنفعه هو ورئيسه ورئيس رئيسه والسابقين لهم في الرتبة والفشل و»الكتينة».
لست متأكداً ما إذا كنت قد أقنعت نفسك فعلاً بأنني خائن عميل، لتتمكن من العضّ والعقر بشكل يرضي عنك البيه الضابط، لكنني أظن أنك لا يمكن أن تتصور أنني ساذجٌ سائل الريالة، لأضيع المزيد من الوقت في تذكيرك بحقائق التاريخ التي ربما كانت رحيمة بالطغاة أحياناً ولو إلى حين، لكنها دائماً لا ترحم المخبرين والبصاصين والألاضيش وخدم البلاط. بالطبع أنت الآن معميٌّ برائحة الظفر التي تنبعث من أنياب البهوات الضباط الناهشين في البلاد والعباد، وهي رائحة تصيبك بسعار لا يسكن إلا بالمزيد من العواء والعض، لكنك لا تدرك أنت وضباطك وضباطهم أن ما تتصورونه من انتصارات كاسحة هو محض أوهام، لأن الانتصار الحقيقي لأي سلطة، لا يكمن فقط في البطش بخصومها، بل في دحض حججهم على أرض الواقع، وتحقيق إنجازات ملموسة لا يجرؤ أحد على تكذيبها، أما ما تفعلونه الآن كل على طريقته وفي مكانه، فليس سوى تربية عداوات وتغذية أحقاد وتنمية مشاريع انتقام واستثمار في خراب مؤكد، لن يخصكم للأسف، بل سيعم كل من استهلكوا أكاذيبكم وافتراءاتكم. ولست بالغافل العييّ، لأتصور أنك يمكن أن تقتنع بأي مما يمكن ضربه لك من أمثلة وبراهين، حدثت لدينا في الماضي القريب، وتحدث الآن في البلاد التي تخوِّفون الناس من مصيرها وأنتم تصنعونه بإجرامكم وغبائكم كل يوم، فلو كان لك عقل تنتفع به، لما ربطت نفسك ككاتب وفنان بسلطة غشيمة تعادي كل ما له علاقة بالحرية والمنطق والعقل، ولما فرحت بنجومية تأتي في زمن كهذا، ستكون أنت أول من يحاسب على فواتيرها، حين تنتهي الحاجة إليك وإلى أمثالك ممن قال عنهم الأجداد ملخِّصين مُخلّصين: «نهيتك ما انتهيت والطبع فيك غالب، وديل الضبع ما يتعدل ولو علّقوا فيه قالب».
المصدر: القدس العربي