الرئيسية » » ماء الصحراء | فؤاد حجازى

ماء الصحراء | فؤاد حجازى

Written By Lyly on السبت، 28 أبريل 2018 | 3:58 ص

ماء الصحراء | فؤاد حجازى

من مخبئنا خلف صخرة مجوفة، أعلى جبل فى سيناء الوسطى، تسللنا لنطل على المعسكر. كانت الدبابات الإسرائيلية ما زالت فى حفرها، مغطاة بشباك التمويه. تطلعنا إلى السماء، الشمس بدأت تستعرض قوتها، وطائراتنا لم تظهر بعد .

خفضنا أبصارنا.. وانسابت نظرات عاتبة من عينى فرد اللاسلكى خميس عمران، فحين شرعنا فى إرسال ما كشفناه، اقترحت مد الهوائى على الأرض، اعترض خميس :

- وضع الهوائى على الأرض يسرب الإشارات .

- ولكننا لا نستطيع رفعه .

وأشرت إلى دبابة تقف فى حفرة أسفل الجبل، سيرانا أفرادها لو رفعناه .

وأفصح وجه خميس عن دهشته وأنا أدفن سلك الهوائى فى الرمال، وأضع عليه قطعاً صغيرة من الصخور، فلونه يميل إلى الاخضرار ، والجبل أصفر .

هل تسربت بعض الإشارات، ولم تتبين قيادتنا فحوى ما أبلغناه، ولهذا لم تأت الطائرات. لكننى أعدت الإرسال عدة مرات، فإذا كان هناك تسرب.. فهل ستكون الإشارات المتسربة نفسها فى كل مرة ..؟!

فردت الشمس عضلاتها ..

ولنتغافل عن الإحباط فى نفوسنا، طلبت من الجندى إسماعيل عاشور، ثالث مجموعتنا الاستطلاعية، أن يفتح علبة عدس لكل منا.

فمنذ نزلنا من الطائرة الهليكوبتر، على مسافة ثمانية كيلو مترات من الهدف، لم نتناول شيئاً يذكر .

بدأنا المسير من منطقة جبلية فى السادسة مساءً، وبينما يعبث إسماعيل بأزرار راديو ترانزيستور معه، سمعنا أن قواتنا عبرت قناة السويس فى الثانية بعد الظهر، قررت اختصار المسافة إلى ستين كيلو متراً، بالمسير فى طريق مكشوف غير آمن، حتى وصلنا إلى المعسكر. كان محاطاً بالأسلاك الشائكة. ومن المتعذر السير فى جوارها، حيث تسير عربات الدوريات الإسرائيلية. ولن يمكننا عمل حفرة فى الجهة المقابلة نختبئ فيها، فليس لدينا وقت للحفر، وربما دلت علينا آثار لنا على الرمال غفلنا عن إزالتها.

لذلك رأينا أن نتسلل إلى داخل المعسكر، حتى نصل إلى الجبل الذى يطل عليه منتهزين غبشة الرؤية فى الرابعة صباحاً، والسكون الذى يعتقل ندى وبرودة ما قبل الشروق . وبالمرة، نكتشف عن قرب جنبات المعسكر .

شرعنا فى فتح ثغرة فى الأسلاك الشائكة. وفوجئت بدم ينبثق من إحدى يدى إسماعيل، وهو يزيح السلك المقطوع بغشم ونرفزة، لأنه عانده. ضمدت يده، وحملت عنه ما بحوزته من مؤن وسلاح غير مصغ لرجاء خميس بحملها .

فجسمه قليل، وكثيراً ما تندر عليه إسماعيل الطويل العريض، أنه سيشترى اثنين منه، ليلعب بهما أخوته الأطفال. لكنه مع تندره كان يريحه أحياناً من حمل جهاز اللاسلكى الذى يزن حوالى عشرين كيلو جراماً على ظهره أثناء المسير. تناولنا العدس، فهدأت نفوسنا قليلاً.. وخيل إلينا أننا سمعنا أزيز طائرات، فتطلعنا إلى السماء ..

عدنا إلى مكمننا الصخرى مكسورى الخاطر .

وأخذت أدافع عن نفسى لنفسى.. وحتى لو تسربت بعض الإشارات.. فلن يغيب عن المتلقى ملء الفجوات ..

لواء مدرع من تسعين دبابة تقريباً، وفى الخلف مخازن للمؤن والذخيرة.

بعد العدس، علت زمزميات الماء أفواهنا، وخلافاً لما توخيناه من الحرص، أخذا يعبان، ولما لم أستطع إيقافهما جاريتهما .

تفقدت ما بقى من الماء.. قد لا يكفينا لو امتدت مهمتنا عدة أيام. ترددت فى البحث عن ماء، خشية ألا أجده وتستنفد قوانا، ونحن منهكون أصلاً .

سمعنا أصوات المحركات.. يزيلون شبكات التمويه، والدبابات تغادر الحفر. تبادلت نظرات تشع بالأسف مع خميس. فهذا هو وقت ضرب الطابور قبل أن يتحرك لنجدة قواتهم المأزومة بالتأكيد، عند شط القناه، وإلا ما خرج من مكمنه .

لعلها فرصتى، وهم مشغولون، أن أستطلع باقى المنطقة، أفضيت بذلك لخميس، فنصحنى بالانتظار ليقوم إسماعيل بذلك، وألا أبتعد عن جهاز اللاسلكى فربما وردت تعليمات جديدة .

أخذت أراقب الحركة فى المعسكر، وطلبت من خميس أن ينقل للقيادة موقفنا. لم يكد يعمل على الجهاز، حتى التفت إليَّ قائلاً :

- البطارية فارغة .

مددت يدى بمولد يدوى وعيناى لا تفارقان المعسكر، وإذا بى أسمع شهقة فأدرت وجهى. كاد قلبى ينخلع والمولد يتدحرج على منحدر صخرى. أسرع خميس خلفه، واحتجزه بإحدى قدميه، وانحنى ببطء والتقطه.

عاد قلبى إلى مكانه، ونظرت إليه ممتناً .

ردت القيادة، أن نلجأ إلى بدوى يدعى عم بركات خلف الجبل، على بعد ثلاثة كيلو مترات من موقعنا. ونسيت فى غمرة فرحى أن أتأكد من صحة ما أبلغناه عن المعسكر .

باغتنى خميس أنه فعل وكل شئ تمام. وقعت فى حيرة أكثر . لماذا لم يرسلوا الطائرات إذن ..؟!

سألت إسماعيل عن جرحه، فهون منه،وأنه خدش بسيط. أعطيته البوصلة وأرسلته لجلب الماء .

علا هدير المحركات ..

تبادلت النظرات مع خميس ونحن لا ندرى ماذا نفعل سوى الاستمرار فى المراقبة .

وبينما تتلاعب بنا الهواجس، عاد إسماعيل وعلى ظهره شوال من البطيخ، وبرفقته فتاة تحمل صرتين من الطعام وفتى فى يديه جركنان من الماء. قدمهما لى :

- صالحة وحسان ابنا عم بركات .

قلت :

- لم يكن هناك داع لتعبكما .

أطرقت الفتاة بعينيها إلى الأرض، وعينا اسماعيل لا تفارقانها، وسأل الفتى عن حاجتنا لأى شيء .

شكرته. ورجوتهما الإسراع بالعودة، حتى لا يراهما الإسرائيليون، لو اكُتشف أمرنا. وقال اسماعيل :

- فليستريحا قليلاً . قلت من بين أسنانى :

- إسماعيل ..

- أمرك سيادة النقيب .

وفى حماية الصخرة انقض إسماعيل وخميس على بطيختين، غير مصغيين لنصيحتى بتناول الطعام أولاً فردت الصرتين.. خبز ولحم، وفتة دسمة لم أستسغ مذاقها .

دعوتهما لمد أيديهما فلم يفعلا. ضحكت قائلاً :

- حذرتكما ..

حول خميس دفة الحديث، وقد وجدها فرصة للسخرية من إسماعيل:

- كانت عيناه ستأكلان البنت.. !

رد إسماعيل:

- عندهم غيط بطيخ وعندنا غيط بطاطس.

شربت جرعة ماء، لتساعد فى ابتلاع الطعام وقلت :

- ليس سهلاً جمع البطاطس مع البطيخ .

قال إسماعيل :

- نذر عليَّ لو وافقت لأزرع الأرض بطاطا .

قلت:

- وهل سيوافق أبوك .. البطاطس أغلى .

عدنا إلى المراقبة. أخذ الطابور المدرع يتحرك .. والقلق يغزنا بأشواكه .

واتفقنا على تناول البطيخ، وأن نحتفظ بالماء، فهو أسهل فى الحمل، عند العودة .

وفى الرابعة بعد الظهر، انبثقت من الأفق أربع طائرات ميج 21 ، قصفت الطابور . جرت الدبابات ، وقد تصاعدت منها الانفجارات. و اصطدمت ببعضها بعضاً، وهى عائدة إلى المعسكر، ووقعت دبابة فوق أخرى وهى تنزل إحدى الحفر.

وبعد قليل حامت فوق المعسكر الطائرات الإسرائيلية للحماية وإلقاء المؤن، ثم عادت. وشاهدنا دبابات تزحف من خط خلفى غير مرئى لنا إلى المعسكر، لاستعواض ما خسروه. أبلغنا عن الموقف الجديد. وسرعان ما انشق الهواء عن طائرات مصرية. بعد الغارة انهالت القذائف تمزق الجبل، فعرفنا أنهم هرشونا ، أسرعنا إلى طريق ملتوٍ داخل الجبل، تلاحقنا فى عشوائية طلقات الرصاص. أصابت بعضها الجركنين البلاستيكيين، وانساب الماء أمامنا على الصخر .

علا الأسف وجوهنا ..

وبغتة ضحك إسماعيل، مشيراً خلفه ..

كان يحمل جوالاً، لم نلحظه فى اضطرابنا، به ما بقى من البطيخ، قال :

- ماء الصحراء .


المصدر جريدة الأهرام
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.