وصية الرفيق الاسكتلندي! | بلال فضل
مع أنه لا يعرفني شخصيا ولا أعرفه، إلا أنني كلما ذُكرت اسكتلندا تذكرته وحكيت قصتي معه لمن أعرف، وكلما سمعت عبارة تستخدم منطق (منح الفرصة للحاكم) كمدخل مراوغ للمطالبة بقمع معارضي الحاكم وتكميم أفواههم من أجل المصلحة العليا للبلاد، تذكرته أيضا. ولأنني أسمعها كثيرا هذه الأيام سأحكي لك قصتي معه، لعلك تتذكرها كلما سمعت عبارة (ندي فرصة ياجماعة).
كنت قد التقيته في إدنبرة عاصمة اسكتلندا التي وصلت إليها بعد أيام من فوز حزب المحافظين في إنتخابات عام 2010 ليقوم بتشكيل الحكومة بعد تحالف رئيسه ديفيد كاميرون مع حزب الأحرار الديمقراطيين برئاسة نيك كليج. وكان ذلك الرفيق الاسكتلندي يقف أسفل تمثال شهير في «برنسيس ستريت» الشهير، ويقوم بلصق منشورات تحمل صورتي كل من ديفيد كاميرون ونيك كليج وقد كتب فوق صورتيهما بخط بارز بالإنكليزية (مطلوبان للعدالة).
للحظة ظننت أن الإثنين ارتكبا جريمة لم أحط بها علما قبل وصولي إلى البلاد، لكنني عندما أقتربت منه وبدأت أقرأ ملصقاته، فهمت أن كاميرون وكليج لم يرتكبا جريمة شنعاء، بل مازالا ـ في رأي المنشورات ـ يخططان لإرتكابها، وأن المنشورات تعبر عن وجهة نظر الحزب الشيوعي الاسكتلندي في خطة الموازنة التي كانت الحكومة الإئتلافية الجديدة تستعد لتنفيذها عبر وزير المالية الجديد جورج أوزبورن، والتي يرى الحزب أنها ليست إلا جريمة كاملة المعالم تستوجب تقديم المتورطين في التخطيط لها إلى العدالة الناجزة. كانت المنشورات تحمل عبارات قاسية يمكن ترجمتها هكذا بالبلدي إذا تجنبنا اعتماد طريقة معامل أنيس عبيد في الترجمة: «جوز البهايم ديفيد كاميرون ونيك كليج وحزبينهم شوية قتلة وولاد متسخة ولا بد من تعرية مؤخراتهم وتسليمهم إلى العدالة لأنهم يريدون خنق أطفالنا من أجل أن يسمن أطفال الأغنياء. فلتحل عليهم اللعنة هُمّ واللي يتشدد لهم».
كنت قد قرأت شيئا ما في الصحف البريطانية فور وصولي عن الضجة السياسية التي يثيرها مشروع الموازنة الجديد، الذي من شأنه أن يشكل ضررا بالتماسك الإجتماعي للطبقات المتوسطة والفقيرة. لكنني لم أكن أتصور أن يصل الأمر إلى خنق الأطفال، ولذلك قررت أن أفهم أكثر من خلال الرفيق الاسكتلندي، بادئا نكشه بسؤال استفزه كثيرا: «أليس من المفروض أن تعطي لمن يتسلم الحكم فرصة لتنفيذ برنامجه، خاصة أنني قرأت أن مشروع الموازنة كان معلنا قبل الإنتخابات، وهو مايعني أن الناخب كان يعلم بالمشروع ولم يتم خداعه، أليس في مثل هذه المنشورات تقليلا من إحترام الأغلبية التي إختارت الحزبين اللذين شكلا الحكومة؟».
كان رفيقنا الاسكتلندي يستمع إليّ وهو يتفرس في ملامحي ويزفر متضايقا، لدرجة أنني ظننته على عادة النقاشات اليسارية سيضربني في أي لحظة بجردل الغراء على رأسي. لكنه إكتفى بأن يسألني بنبرة ساخرة: أنت بالتأكيد من العالم الثالث، قلت له بإبتسامة تحاول إخفاء نبرات التحفز في صوتي: ياعزيزي ليس لديّ مشكلة في أن أشهد بقوة ملاحظتك لملامحي ولكنتي، لكن لديّ مشكلة إذا كان هذا التعليق عنصريا. ضحك لأول مرة بعد طول تجهم وربّت على كتفي بمودة وقال لي: بالعكس ياصديقي، لا مكان للعنصرية في تفكيري، لكن قل لي من أين أنت أولا؟ قلت له: أنا من مصر، ضحك ضحكة الخبير ببواطن الأمور ثم قال لي: إذن أنت من بلاد الفراعنة، قل لي منذ كم عام يحكمكم رئيسكم مبارك؟ قلت له: منذ ثلاثين عاما إلا بضعة شهور، قال لي: أووه يا إلهي، كنت أنوي أن أكون قاسيا في حديثي معك لكنني أراكم تستحقون الشفقة لا القسوة، إنتابتني النعرة الوطنية وقلت له بغلظة: لكنك لم تجب على النقطة التي طرحتها عليك، كومراد.
ربما أعجبه أنني خاطبته بكلمة (رفيق) فقال لي: ياصديقي، خذها قاعدة في حياتك، لا يمكن أن تعطي السياسي فرصة إلا إذا كنت أحمق، السياسي كالثعبان إذا تركته يتدفأ لدغك، لابد أن تضعه دائما تحت الضغط وتضعه في موقع الدفاع لكي لا تكون لديه الفرصة للتفكير في مصالحه. ولكي تقوم بتذكيره دائما وأبدا أن أيامه في الحكم معدودة، لا بد أن تجبره على تبني الأجندة التي تريدها أنت، لأنك لو تركته في سلام لن ينفذ حتى وعوده الإنتخابية. ثم أشار الرفيق الاسكتلندي إلى المنشور الذي ألصقه وقال لي: هؤلاء القتلة يريدون أن يطبقوا ميزانية تخفض نفقات مراكز الحضانة التي يذهب إليها أطفال الطبقة العاملة، سأتضرر أنا وأطفالي من هذه الخطة، لأن هؤلاء الحكام لا يريدون فرض ضرائب جديدة على الأغنياء، لماذا أمنحهم السلام ولو ليوم واحد، سألصق هذه المنشورات ضدهم وسأدعو الآخرين للتظاهر والإضراب حتى يتوقفوا عن هذه السياسات الشريرة، ولن نجعل أبناءنا يدفعون ثمن فشل طبقة الساسة المتحالفة مع رجال الأعمال.
قلت له: لكنهم يمتلكون الأغلبية التي ستجعل ما تفعله مجرد إعتراض لا قيمة له، قال لي بثقة حاسمة: وليكن، سأكون أنا وغيري شوكة في مؤخراتهم، سأستمر في تنبيه وإيقاظ هذه الأغلبية التي إنتخبتهم بفعل التضليل الإعلامي الذي تقوم به وسائل إعلام يمتلكها تايكونات البيزنس المتحالفة معهم. هل تعلم من هو أول من إستقبله ديفيد كاميرون بعد دخوله إلى عشرة داوننغ ستريت؟ إنه تايكون الإعلام روبرت ميرودخ، لماذا سيهتم ميردوخ بأطفالي وأطفال جيراني الفقراء، فليقل في صحفه وقنواته التلفزيونية ما يشاء، أنا لا أهتم، ما أهتم به أنني سأظل أذكر الجميع هنا من حولي حتى لو كانوا أغنياء أو من الطبقة المتوسطة أن من مصلحة كل منهم أن ينحاز للطبقة الفقيرة لكي يحصل على السلام الإجتماعي، لأن المجتمع الذي يطبق سياسات ظالمة للأغلبية الفقيرة لن يحصل أبدا على الهدوء، وسيبدو أنه حل مشكلات مالية لكنه سيخلق مشكلات إجتماعية مدمرة.
فجأة قطع الرفيق حديثه المهم بعد أن دوى صوت صافرة بوليس، على إثرها اختطف الرفيق الحقيبة الجلدية التي حملتها له ووضعها على كتفه مسرعا، ووجه لي كلمات شكر متعجلة قبل أن يطلق ساقيه للريح. جريت خلفه وأنا أسأله بتلقائية: لماذا تجري؟ لماذا أنت خائف؟ أليست حرية الرأي مكفولة في إسكتلندا؟ ضحك وقال لي: طبعا يارفيق، حرية الرأي مكفولة لكن حرية إلصاق المنشورات ليست مكفولة في مكان كهذا، لو أمسكوا بي سأضطر لدفع غرامة لا أمتلكها لا أنا ولا الرفاق في الحزب، وإنعطف جاريا إلى شارع جانبي قبل أن يختفي عن ناظري.
برغم مرور السنين، مازلت أتذكر ذلك الرفيق الاسكتلندي كلما إستمعت إلى أي ناعق يتحدث عن ضرورة أن نعطي الفرصة ونهدأ ونسكن ونسكت في مواجهة السلطة الجديدة التي تحكمنا. أتذكر ذلك الرفيق الاسكتلندي وهو يقول بتلقائية العارف الخبير: «لا يمكن أن تعطي السياسي فرصة إلا إذا كنت أحمق، السياسي كالثعبان إذا تركته يتدفأ لدغك»، وأقول لنفسي: حقا إن الفرق بين المجتمع المتقدم والمجتمع المتخلف، أنك لا تسمع في المجتمع المتقدم تلك الجملة الكريهة التي لا يراد بها إلا الباطل: «ندي فرصة ياجماعة».
بلال فضل