«إعمل عبيط» | بلال فضل
لا تأمن لنفسك من الجنون مهما كانت ثقتك في رجاحة عقلك، هكذا ينبهك العلامة أبو القاسم النيسابوري في مطلع كتابه «عقلاء المجانين» قائلا: إن الله تعالى كما شاب صفات أهل الدنيا بأضدادها، شاب عقلهم بالجنون، فلا يخلو العاقل فيها من ضربٍ من الجنون. مستشهدا بحديث رواه أنس بن مالك عن قول بعض أصحاب الرسول، عليه الصلاة والسلام، وهم جالسون معه عن رجل مرّ بهم: هذا مجنون، فقال الرسول إن المجنون هو من أبلى شبابه في المعصية. أما هذا الرجل فهو مصاب وليس مجنونا.
يذكِّر النيسابوري قارئه بأن الأمم سمّت رسلها مجانين، لأنهم أتوا بخلاف ما هم فيه، وهو ما لا زال الناس يفعلونه، حين يصفون بالجنون من يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما ينكرون، ثم يورد تعريفات مختلفة للمجنون، لدى بعض الصالحين الذين يرون أن المجنون من التمس رضا الناس بسخط الله، ومن عمّر دنياه وخرّب آخرته، ومن لم يميز غيّه من رشده، ثم يورد بعدها ما ذكره اللغويون من أسماء للمجنون مثل: الأحمق والمعتوه والأخرق والمائق والرقيع والمرقعان والممسوس والمخبّل والمخبول والأنوك والمهووس والهلباجة (الأحمق الكثير الأكل) واللكع (الأحمق اللئيم) والجُذُب والهجاجة (الأحمق الكثير الخطأ) والأهوج والهائم والمدله والأبله والمستهتر والواله، والهبنقع وهو المبالغ في حمقه.
يخصص النيسابوري فصلا كاملا لذكر أخبار من تجانّ وتحامق «واستعبط فيها» وهو صحيح العقل، من بين هؤلاء من فعل ذلك ليستر شأنه على الناس، ومنهم من تحامق ليطيب عيشا أو لينال غنى، لأنه علم أن الملوك والأشراف يولعون بالمتحامق إذا أخذ في الهزل، ومن هؤلاء مجنون مرّ عليه بعض الأدباء فتأمل كلامه فإذا هو رصين، فسأله: ما حملك على التحامق؟ فقال: لما رأيت الحظ حظ الجاهلِ.. ولم أر المغبون مثل العاقلِ. وفي ذلك أنشد أبو نصر التميمي:
إن كنت تهوى أن تنال المالا.. فالبس من الحُمقِ غدا سربالا.
وقال أبو منصور الغنوي: الروح والراحة في الحُمقِ.. وفي زوال العقل والخرقِ.. فمن أراد العيش في راحةٍ.. فليلزم الجهل مع الحمقِ. وهو ما قال فيه شاعر آخر: إذا كان الزمان زمان حُمقٍ.. فإن العقل حرمانٌ وشومُ.. فكن حُمقاُ مع الحُمقِ فإني.. أرى الدنيا بدولتهم تدوم.
هناك أيضا من تحامق لينجو من بلاء وآفة، كذلك الذي قال لأهله لما وقعت الفتنة زمن سيدنا عثمان: أوثقوني فإني مجنون كيلا أؤذيكم، فأوثقوه ولما قُتِل عثمان قال لهم: خلوا عني فقد صحوت والحمد لله الذي عافاني من قتل عثمان. ومنهم عبادة المُخنّث الذي دخل على الخليفة الواثق وهو يمتحن الناس في مسألة خلق القرآن فيضرب ويقتل، فبادر الخليفة بقوله: أعظم الله أجرك أيها الخليفة في القرآن، قال: ويحك والقرآن يموت؟ فقال له: نعم كل مخلوق يموت فإذا مات القرآن في شعبان فبإيش يصلي الناس في رمضان؟ فقال الخليفة: أخرجوه فإنه مجنون. وعبد الله بن وهب الذي ادعى الجنون حين رشحه الخليفة لقضاء مصر، فادعى الجنون ولزم بيته، وحين أنكر عليه أحد خلصائه فعلته وهو العالم بالكتاب والسنة، قال له: أما علمت أن العلماء يُحشرون مع الأنبياء وأن القضاة يُحشرون مع السلاطين.
بعد أن يذكر النيسابوري بعضا من سير أشهر مجانين الغرام كمجنون ليلى وكثير عزة وغيرهما، يستطرد في رواية أخبار نخبة من عقلاء المجانين، بادئا بسعدون المجنون الذي نسب إليه الوعّاظ والقُصّاص روايات لا حصر لها، تجعله موجودا في أزمنة وأمكنة شتى، بعضها نسب إليه استجلابه المطر من السماء بعد طول جفاف بفضل حسن مخاطبته لله تعالى، وبعضها نسب إليه الكثير من الحكم والإشراقات الإلهية، وبعضها نسب إليه رسائل «نارية» أرسلها إلى سلاطين وكبراء زمانه، كتلك الرسالة التي قال فيها لأحد الولاة «أما بعد يا هذا فإنك إن لم تستحِ من نفسك فاستحي من ربك، لا يغرك بسطه عليك، فإنه إن غاقصك ـ أي أخذك على غرّة ـ أهلكك وهتكك»، أو ما يقال إنه أرسله إلى جعفر المتوكل قائلا: «أما بعد فإنك قد طمعت بالحياة ونسيت تراصف الأقدام وتطاير الصحف في الشمائل والأيمان، فاذكر حسراتك عند انكشاف الغطاء واقرأ: فلا أنساب يومئذ بينهم ولا يتساءلون»، أو ما يقال إنه أرسله إلى المأمون حين بنى قصرا فقال له «يا من بنى القصر في الدنيا وشيّده.. أسّست قصرك حيث السيل والغرق.. والموت مصطبحٌ منكم ومغتبقُ.. فاحتل لنفسك قبل الوِرد يا حمُقُ.. واذكر ثمودا وعادا أين أنفسهم.. فلو بقى أحدٌ من بعدهم لبقوا».
صفحات كثيرة يفردها النيسابوري لروايات بهلول أشهر عقلاء مجانين الكوفة، الذي حين رآه البعض يلعب في تراب المقابر قالوا له: ما تصنع ها هنا؟ فقال: «أجالس أقواما لا يؤذونني، وإن غبت عنهم لا يغتابونني». ينسبون إليه أنه حين طلب منه هارون الرشيد أن يعظه، قال له في كلمات موجزة «وبِمَ أعظك، هذه قصورهم وهذه قبورهم»، وحين عرض عليه الرشيد مالا رفض عرضه وقال «أترى الله يعطيك وينساني»، ثم ولّى هاربا منه. وفي رواية أخرى ينسبون إليه أنه وعظ الرشيد فأبكاه، فنهره حاجب الرشيد، فقال له بهلول: إنما أفسده أنت وأضرابك. وحين طلب منه الرشيد أن يطلب منه حاجة يلبيها له، قال له: ألا تراني ولا أراك. وفي رواية أخرى أكثر فنية و«صياعة» في صياغتها، نرى بهلول وقد أمر الرشيد بإحضاره فدعا له بهلول بأن يرزقه الله ويوسع عليه من فضله، فنهره والي الكوفة وقال له: أهكذا تدعو لأمير المؤمنين يا مجنون، فقال له بهلول إسكت ويلك فما في الدنيا أحب إلى أمير المؤمنين من الدراهم، فضحك الرشيد حين بلغه ذلك وقال: والله ما كذب.
لا تنتهي الروايات التي يرويها النيسابوري عن مجانين عقلاء مثل عليان وفليت وجعيفران وقديس البصري ويوحنا وريحانة وميمونة وصباح الموسوس، بعضها يحكي عن مواجهات لهم مع الحكام الجبابرة يقولون فيها ما لا يجرؤ عليه أحد، وبعضها يكشف فيه هؤلاء عن تفكيرهم المتواري خلف مظاهر الجنون، ومن أجمل ذلك ما يرويه النيسابوري عن سمنون الذي سأله بعض الخلفاء عما أوصله إلى ما صار عليه فقال: أمتُّ ما كان حيا وهو النفس، وأحييتُ ما كان ميتا وهو القلب، وشاهدت ما كان غائبا وهي الآخرة، وغيّبت ما كان شاهدا وهي الدنيا، وأبقيتُ ما كان فانيا وهو المراد، وأفنيت ما كان باقيا وهو الهوى، واستوحشت مما تستأنسون، وأنست مما تستوحشون. وما تقوله عابدةٌ ظن الناس بها الجنون، هي حيّونة التي كانت تقول: من أحب الله أنِس ومن أنِس طرب، ومن طرب اشتاق، ومن اشتاق وَلِه، ومن وَلِه خدم، ومن خدم وصل، ومن وصل اتصل، ومن اتصل عرف، ومن عرف قرب، ومن قرب لم يرقد، وتسوّرت عليه بوارق الأحزان، اللهم هب لي سكون قلبي بعقد الثقة بك، واجعل جميع خواطري واثقة برضاك، ولا تجعل حَظّي الحرمان منك يا آمل الآملين.
…
ـ «عقلاء المجانين» للعلامة أبي القاسم النيسابوري بتحقيق محمد السعيد زغلول ـ دار الكتب العلمية
٭ كاتب مصري
المصدر القدس العربي فى 13 إبريل 2018