مهرجان أصوات حية
الشعر بكل تعابيره وجنونه وأصواته وأجسامه
قد يكون مهرجان سيت (جنوب فرنسا) الشعري من آخر الأمكنة التي تُحيي الشعر، بتعدديته اللغوية والفنية والعالمية. كأنما حصار يشتد في فرنسا، عليه، وضيق يعيشه وعزلة تهدده، بعدما حُذف من مهرجان لودي وتحول هذا الأخير اشبه بتظاهرة سياحية، تستعرض الفنون السائدة، والنشاطات المستهلكة. ولحذف الشعر من مهرجان لودي دلالات تزداد وضوحاً، وتتلخص في ان الحصار بات يتعدى الأمكنة، إلى الصحافة الثقافية في بلاد بودلير ورامبو ومالارمه وسان جويس بيرس... فالمتتبع للصحافة الثقافية، سواء على صفحات الجرائد أم المجلات السياسية أم المجلات الأدبية، يكتشف بسهولة أن أمكنة الشعر قد اجتيحت أيضاً، لتحتلها الرواية وصولاً إلى الرواية البوليسية. لا مكان للشعر في بلاد الشعر! لا محاور جدية، لا تغطية اصدارات، واحتقار لكل التظاهرات أو ما تبقى منها على امتداد بلاد الثورة الفرنسية. والأخطر أن الشعر دخل في اللعبة السياسية أيضاً (بعد الانتهاك الاستهلاكي للبيست سيلرز) وقد علمنا ان مهرجان لودي (شاركنا في دروتين من دوراته) خضع في اجراءاته الملغية للشعر، للتنافس السياسي بين اليسار وبين اليمين. والأخطر من كل ذلك ان الحزب الاشتراكي هو الذي يتولى مهمة تصفية الشعر والأدب من هذه المهرجانات، خصوصاً ان اليسار معروف تاريخياً بالدفاع عن الأدب وأمكنته، فإذا باليمين هو الذي يحميهما. فعندما انتصر الاشتراكيون في البلديات صفوا حساباتهم مع اليمين بضرب هذا القطاع الحيوي، أي الشعر في فرنسا. أما مهرجان سيت فقد بقي متمسكاً بكونه مساحة للشعر، لانتصار اليمين في البلديات في تلك المنطقة. إذاً الحصار الحديد للشعر بات يتوسع من الصحافة إلى أمكنته التاريخية، ولا بد هنا من تأكيد حقيقة ان مديرة مهرجان سيت مايتي اليس بليد، هذه الامرأة الشغوف بالشعر، الشجاعة، البطلة، هي التي احبطت كل المحاولات لتغيير مسار المهرجان ليكون على شاكلة مهرجان لودي للسياحة والتسلية والعروض السائدة الخفيفة والتجارية. انها امرأة الشعر مايتي وقد تمكنت بميزانية تتضاءل، أكثر فأكثر، من تقديم دورة جديدة، تعتبر حدثاً شعرياً بكل فنونه الكتابية، والحركية والراقصة والمسرحية والغنائية لتكون فضاء سحرياً وحواراً تفاعلياً بين كل هذه الفنون والجمهور وساحة نابضة لأصوات حية امتدت اسبوعاً وقدم فيها أكثر من 100 شاعر من 34 دولة كان للعرب فيها حصة موزونة . وما تخشاه ادارة المهرجان وجمهور المهرجان ان ينتصر الاشتراكيون في المستقبل ويغلقوا نوافذ الشعر التي لم تعد ضرورية بالنسبة إليهم. عندما وصلت إلى مدينة سيت (مسقط رأس الشاعر الكبير بول اليري) فجعت بخبر محو الشعر من مهرجان لودي وانتزاع روحه ومحركه وسببه. لكن وعلى امتداد تلك المدينة الصغيرة في جنوب فرنسا المدينة الهادئة ببحرها (نذكر أن تحفة بول فاليري المقبرة البحرية مستوحاة منها) وشوارعها المطمئنة الآمنة وترحاب أهلها ومقاهيها ومطاعمها ومكتباتها ومسارحها، قضينا اسبوعاً استثنائياً. فالمدينة، بأزقتها ومراكزها وشوارعها تحولت منصات حية لقراءة الشعر أو اداء أعمال مسرحية، أو مقطوعات موسيقية وراقصة وايمائية من خلال نزعة تجريبية، كان للشباب فيها الحضور الأقوى. وقد بدا ذلك جلياً في معرض الكتاب الشعري الذي ضمّ ألوف الكتب والإصدارات الجديدة، وأّمَّه الوف الأشخاص والأدباء. الكتاب الشعري ينتصر في سيت الورق والأغلقة والشعر بألوانها وأحجامها. وأناقة تقديمها على الستندات يشعرك بنوع من الأمل .
فالشعر ما زال حياً (رداً على بعض الغربان من الشعراء الذي نعوه وكادوا يمشون في جنازته). فكيفما نظرت كتب معروضة، ولوحات وصولاً إلى زرع المدينة بالتماثيل المصنوعة من مواد ورقية أو حبال، تمثل أوضاعاً مختلفة لأشخاص الذين يعيشون فيها من الزبال ومكنسته إلى الفتيات الواقفات على كل ناحية وعلى النوافذ أو السيارة وسائقها بأوضاع جامدة تكسب المشهد غرائبية واقعية تنضم إلى شعرية تلك الأمكنة. الساحات شعرنت والناس والأطفال والشيوخ والأشجار والنهر الذي يقطع المدينة نصفين، وعلى ضفافه بواخر أو زوارق شراعية أو متحركة سواء شراعية أو بخارية أو بمحركات... وتنظر إلى فوق الأمكنة لترى هضاباً معلقة وغابات من الصنوبر تطل على البحر وتحضن الشوارع والناس لتذكرنا بتلك القرى اللبنانية التي سميت ذات يوم المعلقات بين الأرض والسماء. واينما تَلَفّت نجد المتطوعات والمتطوعين في المهرجان بحيويتهم وشغفهم يتحركون في مهامهم، للسهر على راحة المدعويين، وتلبية حاجاتهم. خلية نحل، بوجوه مرحبة، وبتلبية فورية لكل مطلب يطرأ. إنهن جيش الشعر على تلك الساحات الممتدة من مكتب المهرجان إلى أرجائه. والرائع أن كل زاوية، أو رصيف، أو شارع، أو ساحة عبق بالشعر، بالعزف الموسيقي الفردي أو الجماعي، أو الرقص، والغناء، والقراءات الشعرية، والحوارات، بتنظيم دقيق، وبتنوع متوسطي يحضنه البحر ومراكبه كأمكنة لأحياء الشعر بفنونه وأنواعه الصوتية البصرية، والجسدية، والمسرحية. وكان على الجمهور أن يختار ما يختار من هذه الفاعليات المتزامنة على مدار أكثر من عشر ساعات يومياً، وينتقل بين الشعراء، والفنانين، ويشهد على نجاح هذا المهرجان. وتعجب أحياناً كيف تمكنت إدارة المهرجان من جمع كل هذه النشاطات المكثفة في أسبوع واحد، لتشكل قوس قزح شعرياً بكل الأنواع والتعابير. إنه البحر المتوسط بإبداعاته المتشابكة، والمختلفة وبلدانه حاضر بقوة وحيوية، أقصد المتوسط بزواياه الأربع الافريقية والبريطانية واللاتينية والشرقية والعربية. وإذا كنّا من خلال نشرنا قصائد قرأها الشعراء من هذا المتوسط، فإن المهرجان ردف ذلك بعروض وحفلات فنية تكمل بملامحها الشعرية تلك الدائرة البحرية المتنوعة. [ من العروض من هذه العروض مسرحيات: أخماتون لإيام أليف، ولقاء جماعي لأدونيس وفينوس خوري وصلاح ستيتية (الذي تغيب بسبب وعكة صحية ألمت به)، وغنائية راقصة لجميلة وأوركسترا آفاق وكاثرين سيدني وآن كاترين كيزر وسهرة شهر فلانكو شارك فيها شعراء وموسيقيون من المتوسط اللاتيني، وشعر من المتوسطيين الخمسة، اندمج فيها شعراء وموسيقيون... إلى حفل غنائي كلاسيكي. ومن فاعليات الشارع، قدم العديد أعمالاً: الثنائي هلما بأغنياته الفرنسية، والكلمة والرقص جماعي شعري موسيقي. ومعارض لها شعرية وامحاء في غاليري أوبن سبايس، وتجهيزات جويل باست في شوارع قرية المهرجان، وكذلك لكلودي لينزي في معرض الكتاب، ورسم ارتجالي في محاولات عديدة، وتحريك لسيليا تافوالو، وجماليات التانغو، واللافت تقديم فاعليات قراءة وإشارات مخصصة للصم والبكم ليشاركوا بخصوصية رائعة، وقد قدم بول شاوول وأحد الصم والبكم عرضاً انطلاقاً من نصه أوراق الغائب. ولم يغب الشاعر بول فاليري عن هذه الأجواء، بل حضر عبر قراءات وعروض وطبعاً متحفه في القرية. وقد ترجم بول شاوول عدداً من قصائد الحب الأخيرة وقرأها تكريماً له. والشعر بتعدديته، اللغوية، والصوتية، والبصرية كان له الحصة الموزونة، مع ماتياس ريشار وبيار تيلمان وتوماس جيميس... ولفتني عزف باسكال ديلاني على الكمان، وقراءة شعرية موسيقية لعدد من الشعراء رودولفو ألونزو (الأرجنتين)، ومكر منغي (عازفة كمان باشكرة ناتالي روسي) وكذلك العرض الشعري لساشا ستورير (قراءة كوريغرافية راقصة) قراءات موسيقية شعرية تكريماً لفاليري... على امتداد المهرجان، وكذلك العرض الشعري لنصوص من أندره شديد أحيته عازفة الكمان لكير منغي على كتاب آدم وحواء ولفتني الحكواتي الجزائري رشيد إقبال وهو يروي قصصاً وحكايات لكل الأجيال، وفي حوار مرتجل بين الموسيقى والشعر، قدم كازيميرو دوبريتو (البرتغال) ورادوير الجارافتيش (مونتغرو)، وآدلين إيزك (أوكسيتانيا)، وعلي علوي، عرضاً حياً وعفوياً آسراً. ومن اللحظات الموسيقية الغنائية ما قدمته كاترين سيدني وآن ماري كيزر في أحد شوارع سيت. ونال الشاعر الإيطالي الكبير دانتي صاحب الكوميديا الإلهية حصته في وصلة يومية بعنوان حول بيت شعر من دانتي شارك فيه العديد وأبرزهم كوجاميسيفيتش (البوسنة) والشعر في المراكب والأشرعة، أحياها شعراء عديدون، حيث قرأوا شعراً إما في مراكب ماخرة أو راسية، أو على ضفة النهر. أما ما يتصل بالقراءات الشعرية فقد استوقفتني قصائد وتأديات عدد من الشعراء العرب والمتوسطين، منهم الجزائرية حبيبة وجهنين، والبوسني نيكولا فوفوليتش، والإسبانية إليسا مارتينيز، والفرنسيون جاك ريدا وبيار دهينو وجاك كلود بنسون وماكيم هورتنس باسكال، وبيار تيلمان... ومن مونتغرو رادوير أوجاريفتيش، ومن الأرجنتين رودولفو ألونزو ومن كيبيك لويز دوبرين. وكان للشعراء العرب حضور مميز كذلك لا سيما قراءات أدونيس التي اتسمت بنضج العبارة وجودة الإلقاء، وكذلك فينوس خوري غاتا بحضورها الخاص وحميمية صوتها وداخليته فوزي يمين بنضارة وقفته وصوته، ومن المغرب الشاعران الراسخان عزيز أزغاي وعبدالرحيم سايل، ومن فلسطين بشير شلش ووليد السوايرعي ومن تونس الشاعر المميز محمد الغزي وعبدالرحمن علواش، ومن سوريا صالح دياب... بول شاوول
ن
بول شاوول
نشرت في المستقبل
08/08/2015
بول شاوول
نشرت في المستقبل
08/08/2015