لحظة انتحار كاتب سيساوي!
مايكوفسكي، شاعر الثورة البلشفية، أطلق على رأسه الرصاص لحظة اكتشافه زيف الأفكار التي حارب من أجلها، وكذلك صلاح جاهين هرب من الاكتئاب ومن أشعاره التي تغنى بها عبد الحليم حافظ، ولحنها كمال الطويل حبا وهياما في الزعيم الخالد جمال عبد الناصر "واللي هيهرب م الميدان عمره ما هيبان في الصورة".
لكن الصدق يأتي من تجاه شاعر آخر أحمد فؤاد نجم، وحنجرة التعبير عن خلايا الصدق الوطني داخل الشعب المصري والعربي، الشيخ إمام عيسى " الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا ، يا محلا رجعت ظباطنا من خط النار، يا أهل مصر المحمية بالحرامية، الفول كتير والطعمية.. ايه يعني في العقبة جرينا، ولا ف سينا، هي الهزيمة تنسينا إننا أحرار... وكفاية أسيادنا البعدا، عايشين سعدا، بفضل ناس تملا المعدة، وتقول أشعار، أشعار تمجد وتماين، حتى الخاين، وان شا الله يخربها مداين، عبد الجبار".
هرب صلاح جاهين بعد موت جمال عبد الناصر- الذي لم يرثه كما يليق بملهم- إلى "خللي بالك من زوزو"، وأنهى الأمر بجملة واحدة: " الدنيا ربيع والجو بديع، قفل لي على كل المواضيع".. بطلنا.. توبنا إلى الله.. قفل يا حاج، ثم انشغل بحياته وبرسوماته، بل وتزوج من جديد من منى قطان ابنة زميلته في صحيفة الأهرام، حيث كان يعمل، جاكلين خوري، وصال وجال، لكنه لم يستطع أن ينسى مكتئبا، لحظة اكتشافه زيف المرحلة الناصرية، فتناول جرعة حبوب كاملة كانت بجواره على سرير اكتئابه.
عبد الحليم قنديل نموذجاً
وكل ما سبق عكس الأديب والكاتب السيساوي الذي كنا نطلب منه فقط الاعتراف بخطيئته في مساندة السيسي، والانحياز للناس العاديين، لكنه يصر على ممارسة الوهم، وإما صمت واعتزال مع بقاء على نفس المبدأ، عبد الحليم قنديل نموذجا، وهو الصحفي المثقف، وأحد السيوف الأولى التي نالت من مبارك واستبداده وعرت زيفه، فإذا بهذا الكاتب الناصري يتغزل في السيسي" السيسي أذاب قلوب النساء في حبه".
إبراهيم عيسى أيضا كان من الذين يهاجمون مبارك ونظامه ليل ونهار، صحافة وروايات، الدستور ومقتل الرجل الكبير، فإذا به يلعب أسوأ دور في عهد السيسي.
ربما كان دور إبراهيم عيسى مع السيسي قبل ترشحه وحتى عزله المؤقت، عزل عيسى المؤقت، أكثر مساندة للسيسي من دور عمرو أديب وأحمد موسى ومحمد الغيطي.
إبراهيم عيسى أراد منح السيسي ثوب الديمقراطية، فراح يخلق معارضة للسيسي وحكومته، وكأن عيسى يريد منح السيسي دور الديمقراطي الذي يسمح للمعارضة بأن تمارس دورها: اشهد يا غرب، شوفوا يا ناس، تأملي يا أمريكا ديمقراطية السيسي الذي يترك إبراهيم عيسى ينتقده فضائيا وورقيا، لكن الرسول وخليفة عصره السيسي قدس الله سره، لا يستطيع السماح لصوت يقول له لا، حتى لو كان بوقا وهميا، السيسي ليس بحاجة إلى معارضة ليقال إنه رئيس ديمقراطي يا سادة!
نجيب محفوظ وعبد الناصر
يحكي رجاء النقاش في كتابه عن نجيب محفوظ أضواء على حياته، الصادر عن مركز الأهرام للترجمة، أنه حين نشر رواية ثرثرة فوق النيل في حلقات عبر صحيفة الأهرام، التي كان يترأس تحريرها ومجلس إدارتها في ذلك الوقت، محمد حسنين هيكل، فإن عبد الحكيم عامر أوقف نشر الرواية لأنها تسيئ إلى الضباط الأحرار، وتروي أنهم مجموعة من الحشاشين، وخاف نجيب محفوظ على حياته، نصحته شلة الحرافيش بأن يتحدث الفنان أحمد مظهر- أحد أفراد الشلة- إلى عبد الناصر، وقد كان مظهر رفيقا له في الكلية الحربية، أو سلاح الفرسان، على ما أتذكر، وهاتف مظهر مدير مكتب عبد الناصر سامي شرف، وما إن علم عبد الناصر بالقصة، حتى طلب الرواية وجلس يقرؤها، ثم سمح بنشرها. وهي حدوتة لا أميل إلى تصديقها كثيرا، قد يكون هيكل هو من أوصل لعبد الناصر رؤيته للرواية، فسمح بأن تكتمل سلسلة نشرها في الأهرام.
المستبد العادل
أرادوا القول إن عبد الناصر هو المستبد العادل، وربما هو أسوأ قول قال به سيد قطب في حياته، فمنح عبد الناصر شرعيه دينية، وقد بحثت كثيرا عن سر وصف سيد قطب لعبد الناصر بأنه المستبد العادل، لكني لم أجد مبررا لذلك.
ربما الانبهار الأول الذي أصاب الجميع من ساسة وكتاب ومثقفين وفنانين!
لكن على أية حال لا تجوز المقارنة على الإطلاق بين عبد الناصر والسيسي، بين سيد قطب وعمرو خالد وعلي جمعة، بين أم كلثوم وعبد الحليم وبليغ وكمال الطويل، وإيهاب توفيق وعلي الحجار وعمرو مصطفى، لذا لن ينتحر كاتب سيساوي، ما الذي يفيده الانتحار، وقد عاد عصر الظلام والاستبداد؟ إن بقاء هؤلاء حول السيسي هو أسوأ طريقة للانتحار، فكلما صرخ الأسواني، صرخ محبوه: ما أخبار أيزنهاور؟
كلما عمل الغيطي نفسه رجلا صرخوا في وجهه: أخبار قائد الأسطول السادس إيه؟
السفينة لا تغرق من دون كتابها وكتبتها.
المصدر الجزيرة مباشر فى الجمعة 15 ديسمبر 2017 15:56