حكايات مكاوي سعيد تصعد إلى القمر | أحمد شوقي علي

Written By Gpp on الأحد، 3 ديسمبر 2017 | 6:26 ص

حكايات مكاوي سعيد تصعد إلى القمر




(1)
لا أظن أن قارئًا تأثر بكتاب قرأه، مثلما تأثرت برواية "تغريدة البجعة" للكاتب المصري الراحل مكاوي سعيد.

أكون أكثر وضوحًا إن استخدمت الفعل "استفاد" لوصف علاقتي بتلك الرواية، اذ إنها فتحت لي بابًا ربحت منه مالًا كثيرًا، غير أن "التأثر" بما يعكسه من معانٍ، يأتي "التتبع" من بينها، هو الأنسب لوصف تلك العلاقة، فقد كان غرضي في المقام الأول إتباع سيرة بطلها.
منذ عشر سنوات تقريبًا، وضمن محاولاتي الأدبية الأولى، ألفتُ قصة عن أطفال الشوارع، وصادف أن قرأها أحد النقاد ولم تعجبه، لأنني –بحسب رأيه- لا أمتلك وعيًا حقيقيًا بعالمهم، ضاربًا المثل بـ"تغريدة البجعة" التي يملك كاتبها ما افتقرت إليه من معرفة؛ هكذا انتبهت إلى الرواية، وعلى ذلك الأساس قرأتها، لكن شيئًا أخر غير عالم الشارع هو ما أثار شغفي. كان بطل الرواية يدرِّس اللغة العربية لغير المتحدثين بها، وكثيرًا ما تطورت علاقته بطالباته الأجنبيات إلى حد الدخول معهن في علاقات حميمة، ولا ينقصني شيء؛ أدرسُ اللغة العربية، وأتكلم الإنكليزية بطريقة معقولة، فلماذا لا أصير مثله؟

طلبت من صديقة تملك مطبعة، أن تصمم لي إعلاناً يحمل رقم هاتفي وفوقه عبارة "Arabic teacher for foreigners"، لكي أطبعه على ورقة من مقاس A4، ثم أنسخها مرات عديدة، لألصقها بواسطة الغراء في أماكن تردد الأجانب في أحياء وسط البلد والمعادي والزمالك، غير أن صديقتي فاجأتني بخمسمائة نسخة من الإعلان، على هيئة "Sticker" متوسط الحجم، فما كان مني إلا أن حملتها، أطوف الشوارع، لأملأ بها الحوائط جميعها، وما هي إلا ساعات حتى بدأت في استقبال طلبات الراغبين في دراسة اللغة العربية من الأجانب. وخلال عام كامل مارست فيه تلك الوظيفة، وبالرغم مما جنيته من أموالٍ كثيرة، لم تتقدم للالتحاق بالدراسة امرأة واحدة، وكان كل طلابي من الذكور!

عندما التقيت بمكاوي سعيد (6 يوليو 1956 – 2 ديسمبر 2017) للمرة الأولى، لم أخبره بقصتي الكاملة مع روايته، واكتفيت بأن أقول له إنني سلكت مجال تدريس العربية للأجانب بسببها، وفي كل مرة تطرق حديثنا فيها إلى ذكر "تغريدة البجعة"، كنت أستدعي الجملة المبتسرة ذاتها من دون تفصيل، وكان يرد عليها بابتسامة هادئة، لا تشي بأي رغبة في الاستزادة من الحكي، ولا أعرف إن كان ذلك هو السبب في امتناعي عن سرد ما حدث كله، أم أن خجلي من إخفاقي في إتباع سيرة "مصطفى" بطل الرواية هو الذي منعني.


ومنذ نحو عام ونيف، وبينما كنت أمر بمقهى زهرة البستان، دعاني مكاوي للانضمام إلى طاولته، كانت تبدو عليه أمارات سعادة بالغة، حين سألني إن قرأت ما كتبه عمرو بدر (رئيس تحرير بوابة يناير) عن رواية "أن تحبك جيهان"، فأجبت بالنفي، فمنحني هاتفه المحمول لقراءة المقال. وكان بدر قد خرج لتوه من السجن، بعد أن ألقت السلطات القبض عليه بتهمة التحريض ضد النظام. جاء عنوان نصه "أن تحبك جيهان في السجن"، وتحدث خلاله عن أثر الرواية عليه وبعض زملائه في محبسهم، حيث يقول: "وسط كثير من القراءات في السجن، كانت هناك رواية واحدة هي الأكثر تأثيراً في ثلاثتنا "أن تحبك جيهان" لمكاوي سعيد، أسرتنا وسيطرت علينا بشكل كامل، ليس فقط لروعتها من الناحية الفنية والأدبية لكن ربما لأنها كانت تحكي عنا (...) بدأ مالك –يقصد مالك عدلي- في قراءة الرواية، وما أن انتهى منها حتى أخبرنا من نظارة باب السجن، التي لها قصص سنرويها، أنه ظل يبكي طوال الليل بسبب النهاية الصادمة للرواية، وأنه دخل في حالة تشبه الاكتئاب بسبب الرواية ونهايتها! في اليوم التالي انتقلت الرواية إلي يد محمود السقا، الذي ظل يقرأ فيها لمدة 24 ساعة بلا انقطاع تقريبا، حتى إنه لم يكن ينام بسبب تفاعله النفسي والوجداني معها، انتهى محمود من قراءة الرواية في الثانية عشرة ليلاً، وكنت أنا أتصفح كتابًا آخر، نظرت إلى محمود، كانت عيناه تمتلئان بالدموع، وقبل أن أسأله، كانت الدموع تنهمر من عينيه بلا انقطاع، أبكته الرواية ونهايتها، كما حدث مع مالك تماما! انتقلت الرواية إلى يدي وقد أصًبحت محصنا من الصدمة، فقد عرفت أن النهاية ستكون مأساوية وصادمة، وهو الأمر الذي جعلني أشعر بحسن حظي، وبأنني قد أفلتُ، نظريا علي الأقل، من مصير الرفيقين مالك والسقا، إلا أن المفاجأة التي أدهشتني، هي أنني ما أن انتهيت من قراءة الرواية حتى دخلت في حالة من البكاء المر، بكيت كما لم أبك من قبل".
وحين أبديت لمكاوي إعجابي بما جاء في المقال، بادرني قائلًا:"هو ده تأثير الأدب"، وكأن لسان حاله يود لو يكمل الجملة "مش تقولي اديت دروس للأجانب". كان سعيد بحق، وربما لم يقصد أن تشير جملته عن تأثير الأدب إلى قصة التدريس، بقدر ما عكست زهوه بما جاء في مقال بدر، الأمر الذي يجعلني أشعر بالحسرة مضاعفة الآن بعد رحيله، دون أخبره بالقصة كاملة، فلعلها -وإن لم تشعره بالسعادة نفسها التي أحدثها في نفسه مقال بدر- كانت لتصير –على الأقل- نادرة يطرب لها قلبه كلما تذكرها.
(2)
كان "ميكي"، وهو الاسم الذي أطلقه زملاء الدراسة على صاحب "فئران السفينة" ولازمه حتى وفاته، يعتبر نفسه أحد مقتنيات وسط البلد. ولعلها مفارقة أن يكون قصده من وراء المؤلف الذي حمل الاسم نفسه، وصدر عن دار الشروق في العام 2010، جمع حكايات الأشخاص الذين مروا في وسط القاهرة وسقطوا من ذاكرتها، في حين أنه كان واحدًا من علامات المكان، وكان المكان محور نصوصه كلها.

بدأت علاقة مكاوي سعيد بوسط القاهرة منذ الولادة، حيث سكن وتنقل بين المدارس في المراحل التعليمية المختلفة، لكن علاقته الحقيقية بها نشأت بعد أن التحق بالجامعة "كان أغلب زملائي إما مغتربين عن القاهرة أو يسكنون بعيدًا عن وسط البلد، ولأن أماكن الترفيه كانت أغلبها في منطقتي، فإنهم كانوا يسألونني عن عناوينها، حينها اكتشفت جهلي الفادح بالمنطقة، فبدأت في دراستها حتى أكون دليلًا لهم"، وهي الدراسة التي تطورت مع الأيام حتى صار "متخصصاً في حب وسط البلد"، ونتج عنها مجموعة من الأعمال الأدبية، منها: "الركض وراء الضوء" 1981، "حالة رومانسية" 1992، "راكبة المقعد الخلفي" 2001، "سري الصغير"، "ليكن في علم الجميع سأظل هكذا" 2009... وكلها مجموعات قصصية، كما أصدر ثلاث روايات هي: "فئران السفينة" 1991، و"تغريدة البجعة" 2008 ، و"أن تحبك جيهان" 2015، بالإضافة إلى "مقتنيات وسط البلد" وهي مجموعة من النصوص.

وعلى الرغم من ارتباطه بعدد من مقاهي وسط البلد الشهيرة، إلا أنه كان من الصعب أن تمر بمقهى زهرة البستان، في أي توقيت، من دون أن تلمحه، وإن تبدل موضع كرسيه بين أركان المقهى وامتداداته، حتى ليظن من يراه، أن لا عمل له غير الجلوس على المقهى، لكن مكاوي الذي تفرغ للكتابة بشكل كامل في العام 1998، بعد سنوات قضاها في العمل كمحاسب، لم يكن يتخذ المقهى كمكان ترفيهي، بل كمصنع ينتج خلاله المسودات الأولى لنصوصه "دائمًا ما أكتب مسوداتي على المقاهي، ثم أعيد صياغتها في المنزل، حيث الهدوء، لكن الكتابة الحقيقية هي ما دونته وأنا بين الناس جالس على المقهى".

وإلى جانب اشتغاله بالأدب، وضع "سعيد" السيناريو لعدد من الأفلام الوثائقية والدرامية الطويلة، منها: "صياد اليمام: إبراهيم عبد المجيد" 2003، "النسر الشهيد: عبد المنعم رياض" 2003، "الجورنالجي" عن حياة الصحافي محمد حسنين هيكل، "الفارس النبيل" عن حياة ثروت عكاشة 2005، "البحر ليس بملآن" عن الكاتب جميل عطية إبراهيم 2005، وكتب سيناريوهات لأفلام روائية قصيرة وطويلة، منها: "عصفور" 2004، و"الغرفة رقم 12" 2005، و"الزيارة" 2006، بحسب ما يشير الناقد حسين حمودة في "قاموس الأدب العربي".

وبالرغم من أن مكاوي سعيد قد حصل في بداية حياته الإبداعية، على الجائزة الأولى للرواية في مسابقة سعاد الصباح للإبداع العربي عام 1991، عن روايته الأولى "فئران السفينة"، إلا أنه ظل بعيدًا من دائرة الجوائز حتى وصلت روايته "تغريدة البجعة" ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2007، بعدها حصل على جائزة الدولة التشجيعية عن الرواية نفسها عام 2008، ثم جائزة اتحاد الكتاب لأفضل مجموعة قصصية عام 2009.

(3)
خلال فيلم تسجيلي أعده الناقد والمخرج السينمائي أحمد شوقي، عن تجربة مكاوي سعيد، وحمل عنوان "ذات مكان"، يقول صاحب "ليكن في علم الجميع سأظل هكذا": "إنني حين أتأمل ذاتي، فإنني أتخيل الكرة الأرضية وقد انهارت، ليقرر البشر هجرها إلى القمر، فأتساءل أي من التراث الإنساني سيحملونه معهم إلى هناك؟ بالطبع سيأخذون الكتب السماوية وبضع مؤلفات لبعض الكتاب، لست واحدًا منهم بالتأكيد، لذلك لا يهمني أن أبقى، ما يهمني هو الكتب التي أكتبها الآن، والناس الذين يحبونني، لكن اللي يفضل من كتبي أو ما يفضلش دي حاجة بعلم الله".

لكني أتخيل أنه إذا انهارت الكرة الأرضية، فإننا قد لا نحمل كتب مكاوي سعيد معنا إلى القمر، لكن الحكايات التي ضمتها كتبه وحكاياتنا التي صنعناها مع تلك الكتب، ستصعد معنا دون شك إلى القمر.


مصدر المقال موقع المدن
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.