ليست كأيّ طفلةً في الصف ، إنها ماتفتأ تحاول رفعَ جسمها الصغير على الكرسي متشبثةً بالطاولة لكنه يعاندها منزلقاً، رجلاها اللتان بالكاد تتبادلان التعلّق بجسمها تارة وبالكرسي تارة ولا تصلان إلى الأرض، يشدانها إلى أسفل كلَّ سبع دقائق.
لكن ثمّة مايشغلها بين كلّ انزلاقين، شراهتها العجيبة نحو الإمساك بالقلم والكتابة به على الدفتر صرفتْها عن ذلك الإلحاح في الانجذاب نحو الأرض، بل إنّ شغفها بهما وإصرارها في العودة إليهما يزدادان في كلّ مرة. إنها تكتب بانهماكٍ عجيب حتى معلمة الصف باتت في دهشة منه، وما إن ينسل جسمُها الضئيل جدّاً من بين أصابع كفيها الدقيقتين قليلاً أو كثيراً حتى تباغته هي مطبقةً عليه لدقائق، تشد جسمها الصغير لأعلى كيفما ارتفع وفي هذا كله تظل قابضةً على قلمها بقوة لئلا يقفز من بين أصابعها هنا وهناك، لتلتحق بدفترها سريعاً.
إنها طفلة السنوات الأربع التي قُدّر لأقدامها النحيلة أن تلتئم باكراً مع الممرّات والطرق بما فيها من أدرانٍ وحفرٍ ومسامير، ودون خيارها أُقحمت في مواكب الكفاح الحياتي ومصارعه لتهجر باكراً مراتع اللهو والعبث والطفولة والمرح.
ممارسةٌ باكرةٌ عنويّة لم يكن لها فيها الخيار وخرجت عن إطار التنظيم والقانون ، لقّحتها معاينةٌ استباقيةٌ للأزمنة والأمكنة والترهيب والعقاب . فغرفة الفئران التي تتكوّم إلى الشمال من عينها اليسرى يتكرر ذكرها خمس مراتٍ على الأقل في اليوم الدراسيّ، والعصا الخشبية الخضراء الثخينة تقبع في ترقب إلى مكانٍ غير بعيد من عينها اليمنى، وبين عينيها معلمة الرسم التي منحت لنفسها الحق في أن تصدر قراراً بفشلها في الرسم فخلدت في ذهنها الغض مشهداً لا يبرح مراودتها كلما رأت علبة ألوان. إنه مشهد كفيها وهما منكفئين على باطنهما جنباً إلى جنب ويضربان بتلك العصا من الحافة.
ثمة مايجذبها إلى التأمل في المكان رغم قابلية جسمها الضئيل للانزلاق. كم هي طويلةٌ المسافة التي تقضيها سيراً من باب المدرسة مستخدمةً في جزء منها سلالم كثيرة حتى تصل إلى ذلك الصف تحت الأرض، ثم تكرر الرحلة باتجاه معاكسٍ في طريقها إلى باب المدرسة منصرفةً إلى المنزل.
لطالما تنازعتها طفولتها من المكان وتساءلت لماذا تجوب هذا العباب الطويل كلّ يوم مع هؤلاء الكبار في الصف والباحة، تفكر كثيراً برجليها اللتين تقضيان فترةً طويلة لتقطعا كل هذه المسافات، مشياً! وكثيراً مايعتريهما الألم!
ما تلبث أن تطير مع فرحها الطفولي بتلك الحقيبة التي تبدو أكبر منها وبما يملؤها من دفاتر مع قلمٍ وحيدٍ وقصيرٍ، وبقرني شعرها المربوطين عنوةً إلى اليمين واليسار ... هذه المنمنمات البسيطة هي فقط من تداعبها وتنشر فيها الفرح وهي تشق الطريق الطويل بين الصف وباب المدرسة !! بين طفولتها المشذّبة والتعب! ولبعض الوقت تعزل مؤقتاً عن مخيلتها قبح المكان: الصف الكائن تحت الأرض والظلام وغرفة الفئران والعصا ومعلمة الرسم التي لولا قسوتها لما اقترن الغلظة والسواد معاً في ذهنها الطفولي.
لهفتها لأن تصل للمنزل بسرعة وتعاود الاندماج مع دفترها والقلم الذي غالبا ما يلتئم رأسه مع ممحاته الذائبة ، تنسيها ديناصوريّة المكان الذي ستعود إليه غداً، تنتصر على شنطتها الثقيلة أملاً بأنها ستفتحتها بسرعة حال وصولها للمنزل وقبل أن تبدل ثيابها المدرسية وتعانق مافيها من دفاتر ..